خاصأمن وقضاءسياسة

استعادة السيادة من خلال إعادة بناء الثقة: إطار عمل استراتيجي للبنان مستقر وسيادي ومزدهر

خاص – بيروت بوست – واشنطن

يقف لبنان على مفترق طرق حاسم في تاريخه الحديث. فقد فتحت تداعيات نزاع ٢٠٢٣ – ٢٠٢٤، إلى جانب الديناميكيات الإقليمية المتغيرة، فرصة ضيقة أمام البلاد لاستعادة سيادتها وبدء مسار منظم نحو الوحدة الوطنية والتجديد المؤسسي. لقد عانى لبنان لعقود من الزمن من تفكك الحكم والانقسام الطائفي والتدخل الخارجي. ولكسر هذه الدائرة، لا بد من تنفيذ استراتيجية وطنية جريئة ومتسلسلة بعناية، بدءاً من التوطيد العسكري الكامل في الجنوب، وحملة منسقة للاستقرار الداخلي، وعملية حوار وطني منسقة بشكل جيد. ويجب أن ترسي هذه الاستراتيجية الأساس لعقد اجتماعي جديد، ونظام سياسي معاد تصوره وإطار وطني للاستخدام الفعال لأدوات السلطة في لبنان.

_إعادة تأكيد سلطة الدولة في الجنوب
إن الخطوة الأولى والأكثر إلحاحًا نحو استعادة السيادة هي أن تبسط القوات المسلحة اللبنانية سيطرتها بلا منازع على جميع الأراضي الواقعة جنوب نهر الليطاني. فقد عملت هذه المنطقة لفترة طويلة كمنطقة حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، حيث تم تقويض سلطة الحكومة المركزية باستمرار من قبل جهات فاعلة غير حكومية.

ولعكس هذا الوضع، يجب نشر القوات المسلحة اللبنانية بكامل قوتها، دون أي غموض حول نطاق مهمتها وديمومتها. يجب نشر قوة لا يقل قوامها عن 10 آلاف جندي في كل قرية ووادٍ وطريق ومنطقة حدودية ليس فقط كوجود عسكري، بل كرمز مرئي لعودة الدولة.

ويجب تعزيز هذا الانتشار بشبكة استخباراتية قوية قادرة على رصد واستباق وإبطال مفعول أي محاولة لتعطيل هذه السيطرة. يجب أن تكون المهمة منهجية ودقيقة، لا تستهدف الوجود المادي فحسب، بل أيضًا هياكل النفوذ الخفية. يجب أن تخضع القيادة السياسية والعسكرية، بما في ذلك وزارة الدفاع ومكتب رئيس الوزراء، للمساءلة عن نجاح أو فشل هذه العملية. فأي هفوات أو بوادر تهاون يجب أن تترتب عليها عواقب. وفي الوقت نفسه، يجب على الدولة أن تطلق حملة تواصل تستهدف الجمهور المحلي والإقليمي والدولي لإظهار جدية ومهنية الجيش اللبناني. ولن يبدأ لبنان باستعادة مصداقيته على الساحة العالمية إلا عندما يظهر أنه قادر على السيطرة على حدوده وأراضيه.

_تعزيز السلام الداخلي والخطاب المسؤول
في الوقت الذي يعاد فيه استتباب الأمن في الجنوب، يجب أن يعمل لبنان أيضاً وبشكل عاجل على الحفاظ على التماسك الداخلي وحمايته. فقد أصبح الخطاب العام في السنوات الأخيرة أداة للانقسام وانعدام الثقة، حيث كثيراً ما تؤجج وسائل الإعلام والشخصيات السياسية والزعماء الدينيين نيران الطائفية. ولمواجهة ذلك، يجب إعلان هدنة وطنية بشأن الخطاب التحريضي والخطابات المثيرة للانقسام وتطبيقها.
ولا ينبغي النظر إلى هذه الهدنة الإعلامية والسياسية على أنها رقابة بل ضرورة أخلاقية ووطنية، وهي خطوة مؤقتة ولكنها ضرورية لإعادة بناء الثقة وتجنب التصعيد الداخلي. ويجب أن يخضع القادة في جميع القطاعات للمساءلة العلنية عن دورهم في الحفاظ على السلام أو تقويضه. يجب أن تكون الهدنة مصحوبة بحملة منسقة لتعزيز الرسائل الإيجابية والوحدة الوطنية والهوية المشتركة. يجب تمكين منظمات المجتمع المدني لقيادة الجهود الشعبية الرامية إلى استعادة التعاطف والتضامن بين المجتمعات المحلية.

_وضع الأسس لحوار وطني
بالإضافة إلى استعادة الأمن وإدارة الخطاب، يجب على لبنان الشروع في عملية أعمق لتضميد الجراح وإعادة الهيكلة. ويبدأ ذلك بإنشاء هيئة مستقلة غير مسيسة من الخبراء المتخصصين في هذا المجال، تعمل ضمن مكتب رئيس الجمهورية، ويتم اختيارها من المجالات الأكاديمية والقانونية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في لبنان.

ويجب أن تعمل هذه الهيئة بشكل مستقل عن الهياكل السياسية التقليدية وأن تكون بمثابة الحاضنة لعملية حوار وطني ترتكز على الثقة والخبرة الفنية.

وتتمثل المهمة الأولية لهذه المجموعة في بناء الثقة تدريجياً وبشكل منهجي بين مختلف الفصائل اللبنانية. وينبغي أن تركز المشاركة المبكرة على الحوارات السرية التي تهدف إلى تحديد الشواغل المشتركة والاعتراف بالمظالم وتصور مستقبل جماعي. وبمجرد بناء الثقة الأولية، يجب أن تبدأ المجموعة في صياغة عقد اجتماعي جديد – عقد يؤكد على المواطنة المتساوية وسيادة القانون والسيادة الوطنية، بدلاً من المحاصصة الطائفية والنفوذ الأجنبي.

وينبغي تقديم هذا العقد الاجتماعي إلى الجمهور بشكل تدريجي، بدءاً بالتواصل مع وسائل الإعلام، وتأييد الشخصيات السياسية والدينية والعامة، وإجراء استطلاع للرأي على مستوى البلاد لقياس الرأي العام وتحفيز الحوار. ثم تكون هذه المسودة بمثابة أساس لمشاورات أوسع، وتحظى في نهاية المطاف بدعم إقليمي ودولي – ليس لفرض حلول خارجية، بل لتعزيز الشرعية الداخلية اللبنانية.

_رؤية لنظام سياسي معاد تصوره
بعد أن يكتسب العقد الاجتماعي زخماً شعبياً، يجب أن يتطور الحوار الوطني إلى نقاش منظم حول النظام السياسي الأنسب لدعم مبادئه وتسخيرها وتطبيقها. يجب أن يستكشف لبنان إصلاحات دستورية تتجاوز جمود الطائفية. ويمكن أن يشمل ذلك اعتماد عناصر الفيدرالية، وتعزيز اللامركزية، وإدخال أنظمة انتخابية جديدة تعكس الطبيعة التعددية للمجتمع اللبناني.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، ينبغي اعتماد قانون انتخابي معدّل يمهّد الطريق لإجراء انتخابات نيابية جديدة في ظل ظروف أكثر عدالة وشفافية. ومن شأن هذه الانتخابات أن تبشّر بجيل جديد من القيادات التي تتماشى مع قيم العقد الاجتماعي. وفي أعقاب الانتخابات، يجب إعادة تنظيم مؤسسات الدولة اللبنانية وفقاً لمبادئ الفصل بين السلطات والشفافية والمساءلة. ويجب إيلاء اهتمام خاص لإعادة بناء السلطة القضائية، وضمان استقلالية هيئات الرقابة، وإضفاء الطابع المؤسسي على الضوابط والتوازنات الفعالة لمنع إساءة استخدام السلطة في المستقبل.

_خارطة طريق لمدة عامين للإصلاح والتجديد
يجب تخطيط هذه العملية برمتها – من تأمين الجنوب إلى تفعيل الإصلاح السياسي – وتنفيذها على مدى عامين. ويجب أن تتضمن خارطة الطريق معالم محددة، ومؤشرات أداء رئيسية قابلة للقياس، وتقارير تقدم متاحة للجمهور لضمان الشفافية والمساءلة في كل مرحلة. وفي حين أن التحول لن يحدث بين عشية وضحاها، إلا أن التقدم المطرد والواضح يمكن أن يولد الزخم والثقة العامة.

كما ينبغي أن يمتد دور فريق الخبراء غير المسيس ليشمل إطلاق سلسلة من المؤتمرات الوطنية رفيعة المستوى ومنتديات الخبراء والإشراف عليها. ومن شأن هذه التجمعات أن تجمع خبراء وطنيين ودوليين بارزين في جميع أدوات السلطة، بما في ذلك الأمن والاقتصاد والدبلوماسية والسياحة والتعليم والتكنولوجيا والبيئة.

سيكون الغرض من هذه المؤتمرات هو تقييم الوضع الحالي لكل برنامج تشغيل متكامل، وتحديد التحديات والفرص الرئيسية، واقتراح إصلاحات خاصة بكل قطاع، ودمج هذه النتائج في استراتيجية وطنية موحدة وقابلة للتنفيذ. ومن شأن هذا النهج الشامل والقائم على الأدلة أن يضمن أن تكون الاستراتيجية الناتجة قوية من الناحية الفنية وقائمة على أسس اجتماعية، وتعكس رؤى طيف واسع من أصحاب المصلحة والرؤية التي حددها الخطاب الافتتاحي الرئاسي. ومن شأن نتائج هذه المؤتمرات أن تشكل العمود الفقري لخارطة الطريق الاستراتيجية ومقترحات السياسة العامة من أجل لبنان مستقر، سيد ومستقل ومزدهر.

علاوة على ذلك، ستعمل هذه المنتديات على إعادة إشراك النخبة المثقفة والمهنية اللبنانية في عملية بناء الدولة. ومن خلال خلق مساحة للخبرة الحقيقية والمشاركة الهادفة، ستساعد هذه المبادرة في إعادة بناء الثقة العامة وتؤشر إلى حقبة جديدة من الشمولية والكفاءة.

وإذا ما تم تنفيذ هذه الخطة بانضباط وإرادة سياسية، فإنها لن تعيد السيادة اللبنانية فحسب، بل ستبدأ أيضًا في إصلاح النسيج الاجتماعي للبلاد. وسوف ترسي الأساس لاستقرار طويل الأمد، وتنشيط الاقتصاد، وإعادة دمج لبنان في المجتمع الإقليمي والدولي كدولة ذات سيادة ومحترمة وموحدة.

لقد عانى لبنان عقوداً من الشلل والتلاعب الخارجي وسوء الحكم. لكن على الرغم من ندوب الماضي، لا تزال البلاد تحتفظ بالقدرة على إعادة ابتكار نفسها. فقد أدى التقاء الميليشيات الضعيفة والتحالفات الإقليمية المتغيرة والإحباط الشعبي الواسع النطاق إلى خلق فرصة نادرة وثمينة لإحداث تغيير حقيقي. لكن هذه اللحظة لن تدوم إلى الأبد.

فمن خلال تأكيد سيطرة الدولة على الجنوب، وتعزيز مناخ من السلام الداخلي، وإطلاق عملية حوار وطني شامل وذي مصداقية، يمكن للبنان أن يطوي هذه الصفحة. لقد حان وقت العمل الآن – بسرعة واستراتيجية وعزيمة لا تتزعزع. عندها فقط يمكن للبنان أن يستعيد سيادته ويستعيد وحدته ويعيد بناء الدولة التي طالما انتظرها شعبه ويستحقها عن جدارة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى