
خاص – بيروت بوست – واشنطن
يترنح لبنان على حافة شلل طويل الأمد، متخندقاً في مواقف متطرفة لا تقدم أي طريق للمضي قدماً. فعلى أحد طرفي الطيف يقف حزب الله وقيادته، التي تكشف خطاباتها وأفعالها عن عدم استعدادها التام لتقديم تنازلات أو النظر في المصلحة الوطنية الأوسع. وفي الطرف الآخر هناك أولئك الذين يدعون إلى نزع سلاح حزب الله فوراً ودون شروط، بغض النظر عن مخاطر التصعيد. وبين هذين القطبين، اختفى الوسط. وغياب الوسطية المعتدلة والبراغماتية يشكل تهديداً وجودياً لمستقبل لبنان. وإذا لم يكن هناك من هو على استعداد للتحرك نحو الوسط، فإن الأمر يتطلب تحركاً عاجلاً وجريئاً.
مع ذلك، وقبل الخوض في المواضيع التي أرغب في تناولها، من الضروري، من أجل الأمانة الفكرية والمصداقية، الاعتراف بحقيقة أساسية: لا يوجد شيء اسمه ”الحياد في المجال العام“. فكل قرار يتعلق بالسياسة العامة يتشكل من خلال رؤية معينة للعالم، سواء تم الإعلان عنها صراحة أم لا. في بلد مثل لبنان، حيث لا توجد مجموعة ثقافية أو طائفية واحدة تملك أغلبية واضحة، يصبح الصراع حتميًا عندما تُفرض رؤية عالمية واحدة دون توافق أو تفاوض واسع النطاق. ومن دون وجود مجال للتسوية، فإن الأمة تخاطر بالبقاء عالقة في دوامة من الأزمات الدائمة.
تاريخياً، استُخدمت الأيديولوجيات فوق الوطنية مثل القومية العربية من قبل النخب السنية لتهميش الطوائف الأخرى، سواء كانت شيعية أو درزية أو مسيحية، تحت ذريعة الوحدة. واليوم، يجب على لبنان أن يتجاوز مثل هذه السرديات المتجانسة ويتبنى نموذجًا تعدديًا حقيقيًا، نموذجًا يحترم التنوع مع ضمان التماسك في الوقت نفسه. وفي هذا السياق، ليست الفيدرالية مجرد إصلاح تقني، بل هي إطار سياسي واجتماعي للسلام الدائم، يمكّن الوحدة الوطنية واستقلالية الطوائف من التعايش ضمن نظام عادل ومتوازن.
_أمة رهينة التطرف
يجسد خطاب الأمين العام لحزب الله ووفيق صفا في 18 نيسان 2025 موقفًا عقائديًا متصلبًا ودوغمائيًا يعتبر السلطة مطلقة ودائمة. وعلى الطرف المقابل، فإن الأصوات اليائسة المتزايدة التي تدعو إلى نزع سلاح حزب الله بشكل كامل وفوري، دون خطة انتقالية قابلة للتطبيق، تهدد بمزيد من الاستقطاب وعدم الاستقرار.
وكلا الموقفين يعكسان تفكيراً متطرفاً أصاب الدولة اللبنانية بالشلل وشرذم هويتها الوطنية. ومن دون بذل جهد موثوق لإزالة الاستقطاب، قد يواصل لبنان انهياره البطيء، أو الأسوأ من ذلك، قد ينزلق إلى حرب أهلية.
_مبادرة رئاسية لإدارة الأزمات
إن السبيل الوحيد القابل للتطبيق للمضي قدماً هو أن تنشئ الرئاسة مجموعة لإدارة الأزمات تكون مستقلة ومتمكنة وذات رؤية. ويجب على هذه المجموعة أن تأخذ زمام المبادرة في وضع استراتيجية وطنية للتجديد – مشروع ذكي وواقعي يضع خارطة طريق للتحول السياسي والاجتماعي والأمني في لبنان.
لا بد للبنان أن يواجه حقيقة حرجة لا مفر منها: فلبنان غارق في أزمة عميقة وطويلة الأمد لا يمكن حلها بالاستمرار في نفس المسار الذي اتبعناه على مدى الخمسين سنة الماضية – مسار يتسم بافتراضات عفا عليها الزمن، ومؤسسات مشلولة، وسياسات تفاعلية قصيرة النظر. لقد تطورت نوايا وقدرات الفاعلين السياسيين، وخضعت الديناميكيات المحلية والإقليمية والدولية التي كانت تحافظ على توازن هش في السابق لتحولات عميقة. أما على الصعيد الداخلي، فقد تغير النسيج الاجتماعي اللبناني بشكل كبير خلال القرن الماضي، وتتطلب هذه التحولات تطوراً مماثلاً في النظام السياسي.
إن الاستمرار في الاعتماد على الأمل في حدوث ”معجزة خارجية“ من قوى إقليمية أو دولية ليس فقط غير واقعي، بل هو أمر محفوف بالمخاطر. ما نحتاجه الآن هو التفكير الجريء والمبتكر والبراغماتي. يجب على لبنان أن يتبنى مقاربة لإدارة الأزمة تعترف بتعقيدات اللحظة الراهنة، وتتجاوز الانقسامات الحزبية الراسخة، وتحشد كل أدوات القوة الوطنية المتاحة لوضع مسار منسق واستراتيجي للمضي قدماً. ومن خلال هذه العقلية وحدها يمكن للبلاد أن تستقر وتعيد بناء الثقة العامة وتضع الأساس لتجديد وطني مستدام وشامل.
وينبغي أن تكون نقطة الانطلاق لخارطة طريق مجموعة ادارة الازمات، خطاب تنصيب رئيس الجمهورية الذي يعبّر عن رؤية وطنية متجذرة في السيادة وشرعية الدولة. وينبغي أن تقوم الاستراتيجية على سلسلة من المعالم، يركز كل منها على التفاوض مع الأطراف السياسية والطائفية الرئيسية في لبنان لإبعادها تدريجياً عن التطرف والاتجاه نحو التسوية البراغماتية.
_المبادئ الاستراتيجية للمجموعة الوزارية المشتركة
1- المفاوضات الثنائية: يجب على المجموعة ادارة الازمات إشراك كل طرف على حدة. فمن غير المرجح أن تؤدي المنتديات الجماهيرية والمناقشات العامة إلى تحقيق اختراقات في هذه البيئة المستقطبة. ومن المرجح أن تسفر المشاركة الهادئة والمباشرة عن تنازلات أولية.
2- تأمين المشاركة الإقليمية: ينبغي دعوة دول مثل المملكة العربية السعودية وقطر، وكلاهما يحتفظان بعلاقات استراتيجية مع مختلف الفصائل اللبنانية، إلى دعم هذه العملية دبلوماسياً وسياسياً، مع الامتناع عن التدخل المباشر في الارتباطات الثنائية. ومن الضروري أن يُفسح المجال للبنانيين أنفسهم لتحديد المسار الأكثر فعالية نحو تحقيق الاستقرار والسيادة والازدهار بشكل مستقل. وينبغي أن يكون الدعم الإقليمي بمثابة مسهل، وليس بديلاً عن الملكية اللبنانية للمصالحة الوطنية وعملية الإصلاح السياسي.
3- الضغط الدولي: ينبغي أيضاً عرض الاستراتيجية على الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، مع طلب الدعم السياسي والدعم التقني والضغط على الجهات المعرقلة.
4- تكريس احتكار القوة: يجب أن يكون أحد الركائز غير القابلة للتفاوض في الاستراتيجية الوطنية هو استعادة سلطة الدولة الحصرية في الحفاظ على القوة واستخدامها. ولا يمكن المساس بهذا المبدأ الأساسي للسيادة. ويجب أن يفهم حزب الله أن أي معارضة لهذا المسعى، سواء من خلال الخطاب أو الفعل، سوف يُنظر إليها محلياً ودولياً على أنها محاولة متعمدة لإثارة نزاع أهلي. وفي مثل هذا السيناريو، ستقع المسؤولية بشكل مباشر على حزب الله، وليس على أولئك الذين يدعون الحكومة إلى التمسك بسيادة القانون وإعادة تأكيد سلطة الدولة.
5 – أهمية احتكار الحفاظ على القوة وليس فقط استخدامها: في حين أن حق الدولة الحصري في استخدام القوة غالباً ما يتم التأكيد عليه في الخطاب الأمني، فإنه من المهم بنفس القدر إبراز مسؤولية الدولة في الحفاظ على القوة. وهذا التمييز أساسي. إذ يشير استخدام القوة إلى النشر الفعلي للتدابير الأمنية ردًا على التهديدات أو الانتهاكات. في المقابل، يشير الحفاظ على القوة إلى القدرة المؤسسية المستمرة على تنظيم وتدريب وتجهيز وقيادة القوات المسلحة بطريقة تحمي المصالح الوطنية وتمنع الآخرين من ملء فراغ السلطة الناتج عن ذلك.
ولا ينبغي السماح لأي جهة غير حكومية، بما في ذلك حزب الله، بالاحتفاظ بالقوة. فالحكومة التي لا تستطيع السيطرة على احتكارها للاحتفاظ بالقوة تفقد القدرة على إنفاذ القوانين وحماية مواطنيها والحفاظ على الوحدة الوطنية. وفي السياق اللبناني، فإن استعادة احتكار الاحتفاظ بالقوة واستخدامها على حد سواء أمر بالغ الأهمية، ليس فقط لمواجهة السلاح غير الشرعي، بل أيضاً لإعادة بناء ثقة الشعب بالدولة باعتبارها الضامن الوحيد للسلام والنظام والبقاء الوطني.
6- الشرعية المحلية: يجب تذكير حزب الله أيضاً بأنه لم تصمد أي مقاومة في التاريخ من دون شرعية محلية. فقد تآكلت قاعدة دعمه الشعبية بشكل كبير. فهو مثل ”السمكة الخارجة من مائها“، لا يمكنه البقاء على قيد الحياة دون أن يكون متجذرًا في موافقة وثقة الشعب اللبناني، وهذه الموافقة غائبة اليوم. إن استمرار وجود حزب الله كجهة فاعلة مسلحة غير تابعة للدولة لم يصبح غير قابل للاستمرار فحسب، بل أصبح أيضاً تهديداً مباشراً لوحدة لبنان واستقراره.
7- السلطة والمساءلة: لقد أثبت التاريخ أن السلطة المنفلتة تؤدي إلى الفساد وتآكل الشرعية. وتشهد أدوار حزب الله في البوسنة والعراق وسوريا واليمن وغزة على فساد السلطة وتحولها من ”مقاومة“ إلى طرف عسكري إقليمي له طموحات بعيدة كل البعد عن هدفه الأصلي. وقد ترافق هذا التحول مع زيادة الاستبداد وتراجع المصداقية المحلية. وعلاوة على ذلك، فإن استمرار استخدام شعار ”المقاومة الإسلامية“ يجرد حزب الله من الهوية الوطنية اللبنانية الحقيقية. وتثير الإشارات العقائدية إلى ”الأمة“، بما في ذلك الإشارات المتعددة في رسالة نعيم قاسم في 18 نيسان 2025، أسئلة حرجة: أي ”أمة“ يتم استحضارها؟ إطار ولاية الفقيه الشيعية؟ هل هي بنية شيعية مشرقية؟ أم الأمة الإسلامية الأوسع؟ إن هذا الخطاب الغامض والطائفي لا يؤدي إلا إلى تنفير عموم اللبنانيين ويزيد من تآكل الشرعية المحلية لحزب الله.
8- الكشف عن الهدف الحقيقي: في حين يدعي حزب الله علنًا أن ترسانته مكرسة لمقاومة إسرائيل، فإن هدفه غير المعلن والأساسي هو تأمين وحماية القوة الشيعية في لبنان، فيما يعتبره محيط يهيمن عليها السنة. ولا بد من تسليط الضوء على هذه الاستراتيجية الطائفية الكامنة ومعالجتها كجزء من إعادة التجديد الوطني. في هذا الإطار، يجب على حزب الله أن يتصالح مع حقيقة أساسية: الدولة اللبنانية وحدها، وليس أي مليشيا، هي القادرة على حماية الطائفة الشيعية، كما جميع الطوائف اللبنانية الأخرى، من خلال المواطنة المتساوية ومؤسسات الدولة وسيادة القانون.
9- وفي هذا السياق، تصبح المعضلة التي تواجهها الطائفة الشيعية في لبنان حرجة بشكل خاص. فرفض حزب الله لنزع سلاحه متجذر في قلق أعمق وخوف كامن لا ينفرد به الشيعة. فهو يعكس السلوكيات السابقة للطوائف الأخرى عندما شعرت بالتهديد. ومع ذلك، لا يمكن أن يكمن الحل في السلاح الموازي أو العسكرة الطائفية. فالنظام السياسي الجديد اللامركزي، كالفيدرالية مثلاً، قد يوفر طريقاً للمضي قدماً لأنه يوفق بين مبدأ احتكار الدولة للقوة والحق المشروع للأقليات في الحفاظ على هويتها وأمنها. ومن خلال النظام اللامركزي، تحصل جميع الطوائف على ضمانات دستورية وحق تقرير المصير السياسي، مما يلغي الحاجة إلى البحث عن الحماية من خلال السلاح أو التحالفات الأجنبية.
إذا كانت رئاسة الجمهورية غير راغبة أو غير قادرة على قيادة خطة الإنقاذ الوطني هذه، فعلى المجتمع المدني اللبناني ورجال قادة الأعمال والضباط العسكريين المتقاعدين والتكنوقراط المحايدين تشكيل مبادرة مستقلة لإطلاق العملية نفسها.
وإلا سيعود لبنان إلى أحلك أيامه. وستضطر كل طائفة إلى تسليح نفسها بنفسها والاستعداد لحماية شعبها. وستتوقف الدعوات إلى نزع سلاح حزب الله ليس لأنها تحققت، بل لأن كل جماعة أخرى ستشعر بأنها مضطرة إلى بناء دفاعها المسلح.
هذه ليست دعوة للحرب. إنها دعوة لتجنبها. إنه نداء لبناء شيء أفضل، لبنان لا تعيش فيه أي مجموعة في خوف، ولا تعلو فيه أي ميليشيا على الدولة، ولا يبرر فيه أي حزب سياسي الحرب التي لا نهاية لها لتأمين سلطته.
لقد حان وقت العمل. لا يزال أمام الرئاسة فرصة سانحة لتذكرها كمهندس لولادة لبنان من جديد، أو أن يسجلها التاريخ كمشاهد متفرج على تفككه.