هذا ما حملته الزيارة الاميركية من رسائل

بين حدي خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، وما تمخض عن لقاءات الوفد الاميركي، المؤلف من توم براك ومورغان أورتاغوس، يرافقهما اعضاء من الكونغرس الأميركي، إلى بيروت، يقف لبنان أمام لحظة استراتيجية دقيقة تُعيد رسم مشهده الداخلي والإقليمي. فالوقائع المتراكمة في الأسابيع الأخيرة، وفي مقدمتها الرد الإسرائيلي الرسمي على الورقة الأميركية، المتعلقة بالوضع الحدودي وترتيبات “حصر السلاح”، أدخلت البلاد في مرحلة من التعقيد السياسي والأمني تُنذر باصطفافات حادة، وربما تحولات كبرى، مؤكدة أن الملف اللبناني لم يعد هامشيًا في الحسابات الإقليمية والدولية، بل بات في صلب الترتيبات المتعلقة بأمن شرق المتوسط، وموازين النفوذ بين القوى المختلفة.
في قلب هذه اللحظة، يتقاطع الداخل اللبناني المنقسم حول مستقبل سلاح حزب الله ودورالدولة، مع خارطة إقليمية تتغير ببطء تحت ضغط التسويات وموازين الردع الجديدة. فالموقف الإسرائيلي، وإن جاء محاطاً بالحذر، أشار بوضوح إلى دعم إسرائيل للطرح الأميركي القاضي “بترتيب السلاح داخل لبنان”، وفتح الباب لتسوية تبدأ من الجنوب ولا تُستبعد منها المسألة السيادية الأوسع. من هنا فان زيارة براك – أورتاغوس، وهي الثانية من نوعها في أقل من شهر، تشير إلى تحرّك أميركي فاعل لتثبيت التفاهمات أو دفع الأطراف نحو الخيارات الحاسمة.
ثلاث مسارات
ضمن هذا الإطار، يبدو لبنان عالقا بين ثلاثة مسارات استراتيجية: الأول، تثبيت التفاهمات الدولية حول حصر السلاح مقابل ضمانات أمنية واقتصادية؛ الثاني، التصعيد الداخلي الذي قد يأخذ شكل شلل سياسي أو اضطراب أمني؛ والثالث، التجميد المرحلي بانتظار استحقاقات إقليمية أوسع.
في كل الأحوال، فإن هذا التداخل بين الحراك الأميركي، الرد الإسرائيلي، وخطاب حزب الله، يُنتج واقعاً سياسياً هشاً لكنه قابل للتشكّل. والسؤال الأبرزهنا: هل سيتمكّن لبنان من ترجمة الضغوط الدولية إلى مسار تفاوض داخلي متوازن؟ أم أنه ذاهب نحو مواجهة مفتوحة بين الدولة والمقاومة تحت مظلة إقليمية مضطربة؟
الاكيد إن ما بعد جولة الوفد الأميركي ليس كما قبلها. إذ دخل لبنان مرحلة اختبار جدّي لموقعه، ودوره، وهويته السياسية المستقبلية، في ظل اشتباك إقليمي – دولي يتجاوز ساحته الجغرافية الضيقة إلى عمق موازين القوى في الشرق الأوسط، على ما تؤكد اوساط الوفد الاميركي.
اوساط مطلعة على اجواء الوفد الاميركي، كشفت ان الزيارة الاخيرة للوفد الاميركي “الفضفاض”، وللشخصيات التي ضمها، حملت الكثير من الرسائل والمؤشرات الاستراتيجية لمن يعنيهم الامر، من مسؤولين رسميين في الدولة اللبنانية، وللقيادات السياسية المختلفة، مشيرة الى ان واشنطن ارادت تثبيت رؤيتها الجديدة للبنان، وعدم الاكتفاء بدور “الراعي المساعد”، بل باتت تدفع نحو صياغة معادلة سياسية – امنية جديدة في لبنان، تنطلق من حصر السلاح تدريجيا، اقامة ترتيبات امنية جنوبية بضمانات احادية منها، وهو ما تخفيه خلف قراريها بانهاء مهمة اليونيفيل من جهة، وانشاء منطقة صناعية، من جهة ثانية.
وتابعت الاوساط، بان زيارة براك – اورتاغوس، جسدت “تصعيدا ناعما” عبرت عنه التصاريح التي سبقت ورافقت واعقبت اللقاءات في المقرات الرئاسية، حيث لا مساعدات دون تغييرات سياسية عميقة، وبالتالي فان المرحلة المقبلة ستشهد ضغوطا اكبر على مكونات السلطة، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة.
ورات الاوساط بانه من الواضح ان المحاولات الاميركية لفصل المسار اللبناني عن النزاع السوري – الايراني، عبر خلق مساحة تسوية خاصة بلبنان، قد نجحت، بالتقاطع مع الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية، من هنا فان الزيارة جاءت متزامنة مع الرسائل الاسرائيلية، الدافعة باتجاه التسريع في اقامة الترتيبات الامنية جنوبا بهدف منع التصعيد، كجزء من استراتيجية احتواء ومنع حرب محدودة انهت تل ابيب استعداداتها بشانها.
وختمت الاوساط، بان الزيارة شكلت تحركا اميركيا مدروسا ضمن مرحلة انتقالية دقيقة يعيشها لبنان، فبين الدعم والتحذير تراوحت اللهجة والخطاب، فالخيارات ضيقة، اما السير في تسوية اميركية مشروطة ومراقبة دوليا، و اما الانزلاق الى مزيد من الانهيار السياسي – الامني، وربما تفجير الوضع الحدودي، وفي الحالتين لم يعد التوازن القائم حاليا قابلا للحياة.