“الصدام” الاميركي – الفرنسي يربك بيروت

منذ ما قبل دخول لبنان نفق ثورة 17 تشرين وما خلفه من انهيارات على أكثر من مستوى وصعيد، تحولت البلاد إلى ساحة اختبار دبلوماسي بين القوى المعنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. فبين واقعية باريس السياسية، المحكومة بالإرث التاريخي، وتبديلها لحصنتها اللبنانية، وتشدد واشنطن الاستراتيجي، المرتبط بالمصالح الإسرائيلية، تبقى بيروت في موقع المرتبك والمعلق، تتقاذفها المقاربات الخارجية دون أن تجد مخرجًا داخليًا أو دعمًا خارجيًا لازمتها، التي قد تنفجر دفعة واحدة قريبًا.
ففيما تعتمد السلطة اللبنانية على “الأم الحنون” وتسويقها لنظرية منع الانهيار الشامل، مدفوعة بالعوامل التاريخية والثقافية والارتباطات الاقتصادية، ما سمح لها بالتعاون مع الرياض في لعب دور الوسيط بين القوى السياسية المحلية، وتمريرها التسوية التي أنتجت العهد الحالي، في الوقت الدولي الضائع، تجد باريس نفسها عاجزة أمام الجدار الأميركي، وتحديدًا بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مع اتساع هوة الخلاف اللبناني بين الطرفين، من التمديد للقوات الدولية، إلى الأولويات بين السلاح والإصلاح.
في هذا الإطار يكشف مصدر دبلوماسي فرنسي، سبق أن خدم في بيروت، أن اللقاء الثلاثي الأخير الذي عقد في باريس، وضم مورغان أورتاغوس، الأمير يزيد بن فرحان ولودريان، عشية زيارة الأخير إلى بيروت، لم يكن مشجعًا، في ظل إصرار أميركي – سعودي على عدم التجاوب مع مسعى باريس لجهة تقديم جرعة دعم وإن كانت شكلية للبنان، ما خلق إحباطًا فرنسيًا، حمله معه الموفد الرئاسي الفرنسي إلى بيروت، وانعكس في لقاءاته مع المسؤولين.
ويرى المصدر أن المقاربة الفرنسية الراهنة للوضع اللبناني والتي وضعت القيادات في بيروت في صورتها، والتي تشكل شروط باريس للانخراط من جديد في دعم لبنان، تستند إلى النقاط الأساسية التالية:
- إطلاق ورشة إصلاحات جدية على كافة الأصعدة، تبدأ بالقوانين ولا تنتهي بتحديث الإدارة وأجهزتها، حيث لم تسجل أي إجراءات جذرية حتى الساعة على صعيد تحديث وتطوير القطاع العام، وكذلك الحال بالنسبة للقضاء والأمن وكهرباء لبنان، والمصرف المركزي.
- إظهار العهد استقلاليته عن “النفوذ السياسي”، من خلال تحرير السلطات الدستورية من أي ضغوط داخلية أو إقليمية، تجعلها خاضعة لأي من المحاور المتواجهة، ومن هنا الدور الكبير لرئاسة الجمهورية “الوسطية” كحافظة للتوازنات بين المكونات اللبنانية المختلفة، دون ارتهان لأي طرف.
- التمسك بدور الجيش اللبناني، وتعزيز قدراته، والأهم استقلاليته ليتمكن من حماية الاستقرار الأمني والقيام بواجباته على الحدود، جنوباً شرقاً وشمالاً. وعلى هذا الصعيد يكشف المصدر أن باريس اصطدمت أكثر من مرة “بفيتو” أميركي، منع إعادة تحريك المنحة السعودية لتسليح وتجهيز الجيش والتي كان أقرها الملك عبدالله إبان عهد الرئيس العماد ميشال سليمان. وفي هذا الإطار علم أن قائد الجيش قام بزيارة إلى باريس استمرت من الثلاثاء إلى الخميس، حيث التقى رئيس أركان الجيوش الفرنسية، وبحث معه مختلف الملفات المشتركة وسبل تعزيز قدرات الجيش اللبناني.
أمور حملها معه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت خلال زيارته الأخيرة، حيث أكد لكل من التقاهم “أن الأمور مش ماشية” وأن فرنسا عاجزة في ظل المسار اللبناني الرسمي الحالي على إحداث أي خرق أو تليين الموقف الأمريكي، وبالتالي من هنا كان تركيزه على الملفات الاقتصادية، وضرورة التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الأمر الذي يرى فيه الإليزيه أولوية راهناً، وإلا فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة، خصوصاً أن المشهد الإقليمي ضبابي والأمور مفتوحة على كل الاحتمالات.
في ظل هذا المشهد، تبقى بيروت مربكة، لا تملك قرارها السيادي الكامل، ولا الدعم الدولي المنسجم، ما يضع الاستحقاقات في دائرة المراوحة، من تمديد للأزمات، إلى تراكم الانهيار المالي، طالما لا مبادرة دولية واحدة تنقذ الوضع، وبالتالي بقاء لبنان رهينة الحسابات الدولية، التي حتى الساعة لم تنجح في وضع خارطة طريق واضحة، لدعم دولي مشروط بالإصلاح لا بالأشخاص، وضغط أكبر على الطبقة السياسية لعدم إضاعة الفرص المتاحة.
فالتاريخ اللبناني “مليان” شواهد على أنه حين ينقسم الخارج، ينهار الداخل أكثر.
(ميشال نصر)