خاصأمن وقضاءإقليميدوليسياسةنزاعات وصراعات

كلام هيكل امام الضباط: رسائل استراتيجية في لحظة أمنية مفصلية للبنان

خاص – بيروت بوست

شكّل اجتماع قائد الجيش العماد رودولف هيكل مع كبار الضباط، في اليرزة، بما حمله من مضمون وتوقيت ورسائل، محطة مفصلية في قراءة موقع المؤسسة العسكرية داخل المشهد اللبناني المأزوم، ويتجاوز كونه لقاءً تعبويًا داخليًا إلى كونه إعلان تموضع استراتيجي مدروس في لحظة إقليمية وداخلية شديدة الدقة.

فيما يلي أبرز النقاط التي يجدر التوقف عندها:

– أولًا، على المستوى الأمني، أتى الاجتماع في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية واتساع نطاقها، بما في ذلك استهداف عناصر من الجيش اللبناني نفسه. فاستهلال اللقاء بدقيقة صمت على أرواح الشهداء، ولا سيما العسكري الذي سقط نتيجة غارة معادية، يحمل دلالة مزدوجة: من جهة تثبيت حقيقة أن الجيش بات في دائرة الاستهداف المباشر، ومن جهة أخرى نزع أي التباس حول دوره جنوبًا، باعتباره قوة منخرطة ميدانيًا في إدارة المخاطر، لا مجرد طرف مراقب أو محايد.

هذا التفصيل أساسي في سياق السجال الدائر داخليًا وخارجيًا حول دور الجيش وحدود مهامه في الجنوب.

– ثانيًا، على المستوى المؤسسي، أعاد العماد هيكل التأكيد على ثوابت العقيدة العسكرية، وعلى أن المبادئ التي تحكم أداء الجيش “لن تتغير مهما كانت الضغوط”. كلام موجّه بوضوح إلى أكثر من جهة: داخليًا، إلى القوى السياسية التي تحاول توظيف الجيش في صراعاتها أو تحميله أعباء سياسية تفوق قدرته؛ وخارجيًا، إلى الأطراف التي تضغط لتغيير قواعد اشتباك أو أدوار المؤسسة العسكرية بما يخدم أجنداتها.

في هذا الإطار، يقدّم قائد الجيش نفسه كحارس للاستمرارية المؤسسية، في بلد تنهار فيه معظم المؤسسات أو تُستنزف سياسيًا.

– ثالثًا، البعد الدولي في الخطاب لا يقل أهمية. فالإشارة إلى الزيارة الأخيرة إلى فرنسا، وما رافقها من إشادة بالأداء “المحترف” للجيش، تأتي في توقيت بالغ الحساسية، في ظل محاولات إسرائيلية منهجية للتشكيك بصدقية الجيش وعقيدته، تمهيدًا لضرب شرعية أي دعم خارجي له.

من هنا، حرص العماد هيكل على ربط الثقة الدولية بسجل ميداني مثبت، لا بخطاب سياسي، وعلى إبراز أن الدعم المرتقب ليس منّة، بل نتيجة التزام الجيش بواجباته رغم محدودية الإمكانات.

– رابعًا، شكّل الحديث عن المؤتمر المرتقب لدعم الجيش رسالة سياسية بامتياز. فالعماد هيكل وضع معادلة واضحة: الأداء الميداني والوفاء بالالتزامات، لا سيما في الجنوب، هما أساس الدعم. بذلك وجّه رسالة تطمين إلى الدول الداعمة بأن استثماراتها في الجيش ليست رهانات خاسرة، كما وجّه رسالة داخلية بأن تعزيز قدرات الجيش ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة سيادية لمنع انهيار الأمن الوطني أو استيراد حلول خارجية.

– خامسًا، في الإشارة إلى التعاون مع لجنة الإشراف على وقف الأعمال العدائية واليونيفيل، حرص قائد الجيش على تثبيت موقع المؤسسة العسكرية كحلقة وصل شرعية بين الداخل اللبناني والمنظومة الدولية. تموضع يعزّز دور الجيش كعنصر استقرار لا يمكن تجاوزه في أي “ميكانيزم” أمني مستقبلي، ويضعف محاولات تهميشه أو القفز فوقه.

– سادسًا، لا يمكن تجاهل دلالة الحديث عن انتهاء المرحلة الأولى من خطة الجيش، والانتقال إلى التقييم والتخطيط للمراحل اللاحقة. هذا الكلام عكس عقلية استراتيجية هادئة، لا انفعالية، ويشير إلى أن القيادة العسكرية تدرك أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر تعقيدًا، سواء على صعيد الجنوب، أو الحدود، أو الداخل.

كما أن الإشادة بالتنسيق القائم مع السلطات السورية في ملف الحدود تحمل بعدًا براغماتيًا، بعيدًا عن الشعارات السياسية، وتؤكد أن الجيش يتعامل مع الوقائع بما يخدم الأمن الوطني لا الحسابات الأيديولوجية.

من هنا، يمكن القول إن خطاب اليرزة هو محاولة واعية لتحصين الجيش في لحظة اشتباك سرديات: إسرائيلية تسعى إلى تشويه صورته، داخلية تحاول زجّه في صراعات سياسية، ودولية تبحث عن شريك موثوق في إدارة الاستقرار. الرسالة الجوهرية واضحة: الجيش باقٍ كعمود فقري للدولة، يراكم الثقة، يدفع الأكلاف، ويطالب بدعم نوعي يوازي حجم المسؤوليات.

عليه، فإن هذا الاجتماع ليس حدثًا عابرًا، بل إعلان تموضع استراتيجي هادئ: الجيش يقرأ المرحلة، يضبط إيقاعه، ويستعد لمواجهة استحقاقات أكثر حساسية، فيما لبنان يقف مجددًا أمام سؤال مصيري حول قدرة الدولة على الصمود وسط العواصف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى