تقدير موقف | تدمر: سقوط أميركي في مواجهة داعش

خاص – بيروت بوست
أمس، أعلن البنتاغون عن مقتل ثلاثة أميركيين (جنديان ومترجم مدني) وإصابة ثلاثة آخرين في هجوم مسلح قرب مدينة تدمر في وسط سوريا، أثناء نشاط ميداني لقوات أميركية كانت تشارك في مهمة مكافحة الإرهاب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وبالتعاون مع قوات سورية محلية.
البنتاغون وصف الحادث بأنه كمين نصبه مسلح مستقل ينتمي أو متصل بداعش، وقد تم قتل المنفّذ في تبادل لإطلاق النار بعد الهجوم.
من جهته توعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب “بردّ حازم وقاسٍ” على تنظيم الدولة إذا ما تعرضت القوات الأميركية لهجوم مماثل مستقبلاً، مشيرا، إلى أن الحادث وقع في منطقة غير خاضعة بالكامل لسيطرة دمشق، وأن الرئيس السوري أحمد الشرع أبدى غضباً واستياءً بالغين تجاه ما حصل.
١. الدلالة الاستراتيجية للعملية:
أ. واقع الإرهاب في سوريا بعد سقوط الأسد:
مع انهيار حكم بشار الأسد في أواخر 2024، عادت خلايا تنظيم الدولة إلى النشاط في البادية السورية، مستفيدة من فراغ أمني في مناطق واسعة من وسط وشرق البلاد. ورغم خسارة التنظيم سيطرته الإقليمية قبل سنوات، ما زالت خلاياه تُنفّذ هجمات ضد قوات محلية ودولية.
من هنا تؤكد العملية قرب تدمر أن العنف الإرهابي ما زال قادراً على ضرب أهداف استراتيجية في مواقع كان يُعتقد أنها في تحسن أمني نسبي، خصوصاً عندما تتعاون قوات متعددة الجنسيات أو وطنية. وهذا يشير إلى أن داعش لا يزال يحتفظ بخلايا نائمة مع قدرات تنفيذ عمليات مفاجئة حتى وسط المناطق الصحراوية.
٢. تداعياتها على الوضع السوري الداخلي:
أ. طرح مسألة الأمن والتحالفات الداخلية:
تُسلّط الحادثة الضوء على ثغرات في التنسيق الأمني بين القوى المحلية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعمل الميداني المشترك بين القوات الأميركية والمجموعات المحلية الموالية لبقية أطراف النزاع. فوقوع الهجوم خلال نشاط ميداني مشترك مع وحدات سورية يفتح أسئلة حول مدى قدرة دمشق على ضمان أمن المناطق التي تُدّعى أنها تحت سيطرتها أو تأثيرها.
كما أشار المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية إلى أن هناك تحذيرات سابقة من احتمالية هجمات لداعش في تلك المنطقة لكنها لم تُؤخذ بعين الاعتبار بشكل كافٍ، ما يشير إلى فجوة حقيقية في تبادل المعلومات والتقديرات الأمنية بين الأطراف.
هذا الأمر قد يؤجج الخلافات داخل بنية السلطة الانتقالية أو المؤسسات الأمنية بعد سقوط الأسد، حيث يعاني المشهد من انقسامات بين مجموعات محلية وفصائل مختلفة حول الأولويات والحفاظ على الأمن المشترك.
ب. تأثير على الاستقرار المحلي وسُلطة الدولة:
بالنسبة للسوريين، فإن هذا النوع من الهجمات يذكّر الجميع بأن داعش ما زال يشكّل تهديداً حقيقياً، وأن الانقسامات والأجندات الأجنبية يمكن أن تعقّد الجهود لإعادة بناء الأمن والاستقرار. مثل هذه العمليات غالباً ما تعيد إلى الواجهة مخاوف السكان من انعدام الأمن، النزوح، وإعادة تسليح الجماعات المسلحة، ما يعوق جهود المصالحة الوطنية.
٣. تداعياتها على السياسة الأميركية في سوريا:
أ. بقاء الوجود العسكري الأميركي:
مقتل الأميركيين في سوريا يعيد إلى الواجهة سؤال شرعية وبقاء القوات الأميركية هناك. الولايات المتحدة تُبقي قوة محدودة في سوريا قالت إنها تهدف إلى مكافحة الإرهاب ومنع عودة داعش لهياكل تشبه دولة، إضافة إلى حماية الحلفاء المحليين.
ومن المرجّح، في رد فعل رسمي أميركي، أن يشهد الوجود الأميركي زيادة مؤقتة في التدابير الأمنية، مراقبة أكبر، وربما ضربات انتقامية ضد بؤر داعش ردّاً على خطاب ترامب الذي وعد بردّ حازم وواسع.
ب. الضغط الداخلي الأميركي:
داخل الولايات المتحدة، الحادثة قد تُفاقم النقاشات حول تكلفة وبقاء القوات الأميركية خارج حدود البلاد، خصوصاً في سياق استراتيجيات مكافحة الإرهاب الطويلة الأمد. دعاوى الانسحاب أو إعادة الانتشار قد تُستعاد في الكونغرس والوسط السياسي الأميركي، ما يخلق ضغطاً متزايداً على الإدارة لتوضيح استراتيجية واضحة في شرق سوريا.
٤. تأثيرها على العلاقات الأميركية – السورية:
أ. فرصة أم اختبار لتحسين العلاقات؟
من غير المبالغة القول إن العلاقات بين واشنطن ودمشق تعمل في مساحة حساسة ومحدودة من التعاون ضد داعش بعد سقوط الأسد وظهور حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، الذي زار واشنطن في الأشهر الماضية؛ وهي زيارة ترافقت مع اتفاق على التعاون في مكافحة التنظيمات الإرهابية.
فالنكسة الأميركية في تدمر قد تكون مِحكاً حقيقياً لهذا التعاون، إذ إنها تتطلب من الطرفين التعاطي مع تبادل المعلومات، تحسين التنسيق الأمني، وتصحيح الأخطاء في التخطيط الميداني. ردّ الفعل السوري الرسمي الغاضب من الحادثة، كما ذكر ترامب، قد يشكّل مؤشر احترام متبادل، لكنه في الوقت نفسه يفتح سؤالاً حول موقف دمشق من مكافحة الإرهاب داخل مناطق خارج نطاق سيطرتها المباشرة.
ب. خطر التوتر أو الانزلاق:
في حال ردّت واشنطن بشكل عسكري أوسع خارج نطاق مكافحة الإرهاب المتفق عليه، فقد يؤدي ذلك إلى تصعيد غير مرغوب فيه مع دمشق أو حتى مع فصائل أخرى داخل سوريا. فأي ضربات أميركية يعتبرها النظام السوري (أو حلفاؤه) انتهاكاً لسيادة الأرض السورية قد تؤدي إلى توتير العلاقات أو حتى إعادة السيناريوهات الإقليمية المعقدة التي شهدناها في السنوات الماضية.
٥- السيناريوهات المحتملة للرد الأميركي:
أ. الرد العسكري المحدود والمباشر ضد داعش:
أكثر السيناريوهات ترجيحاً في المرحلة الراهنة هو تنفيذ ضربات جوية أو عمليات خاصة محدودة ضد خلايا داعش في البادية السورية. فالهدف سيكون الرد السريع على الهجوم، حماية القوات الأميركية، ومنع إعادة ظهور داعش كممثل إرهابي فعال.
-الإيجابيات: يرسل رسالة قوية لمنفذي الهجمات المحتملين دون الانزلاق إلى صراع واسع؛ يحافظ على استمرار التعاون المحدود مع دمشق أو الفصائل المحلية.
-المخاطر: احتمال الخطأ في تحديد المواقع أو إصابة مدنيين قد يخلق ضغوطاً سياسية داخل الولايات المتحدة، كما قد يُستغل من قبل فصائل سورية معارضة أو النظام السوري لتصعيد الخطاب ضد الوجود الأميركي.
ب. التصعيد الجزئي مع عناصر سورية:
سيناريو آخر محتمل، لكن أقل ترجيحاً، هو رد أميركي جزئي على مواقع يعتقد بأنها تحت سيطرة فصائل سورية موالية للنظام أو عناصر مدعومة إيرانياً، بحجة منع أي تعاون غير معلن مع داعش أو حماية مصالح القوات الأميركية.
-الإيجابيات: يعزز القدرة الردعية ويُظهر جدية الولايات المتحدة.
-المخاطر: تصعيد محتمل مع النظام السوري وحلفائه، بما في ذلك إيران وميليشياتها، وربما روسيا التي لها دور محوري في حماية حكومة الشرع الجديدة، ما قد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية معقدة.
ج. التركيز على الميدان الاستخباراتي والتعاون مع شركاء محليين:
أكثر السيناريوهات استدامة، خاصة على المدى المتوسط، هو زيادة الدعم الاستخباراتي للقوات المحلية والتحالف مع المجموعات السورية الصديقة، ومكافحة داعش عبر العمليات الخاصة دون مواجهة مباشرة مع النظام السوري.
– الإيجابيات: يقلل من المخاطر السياسية والعسكرية المباشرة ويُبقي العلاقة مع دمشق ضمن إطار التعاون المحدود.
-المخاطر: قد يُعتبر ردّاً ضعيفاً داخلياً في واشنطن، خصوصاً أمام الرأي العام الأميركي، ويُحافظ داعش على قدراته المتبقية.
٦. الخلاصة الاستراتيجية:
الهجوم قرب تدمر ليس مجرد حادث أمني عابر، بل انعكاس لواقع أمني معقد ومتشابك في سوريا بعد سقوط الأسد، اذ يؤكد أن داعش ما زال قادراً على ضرب أهداف حتى وسط مناطق “محتملة الاستقرار”، وأن التنسيق بين القوى المحلية والدولية ما زال هشاً.
كما أن الحادث يشكّل اختباراً حقيقياً للعلاقات الأميركية – السورية: فإما أن يتحوّل إلى فرصة لتعزيز التعاون الأمني والعملياتي ضد الإرهاب، أو أن يكون نقطة توتر جديدة تُعمّق الخلافات وتُعقّد الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
في كلتا الحالتين، فإن ما حدث في تدمر يؤذن بدخول مرحلة جديدة من إعادة تقييم السياسات العسكرية، الأمنية، والعلاقة بين واشنطن ودمشق في ساحة سورية لا تزال تواجه تحديات أمنية وسياسية ضخمة.




