
يبدو أن بعض الدول الإقليمية، ومنها عربية، لم تتعلّم شيئًا من تاريخ هذا البلد الصغير الموجوع. هناك من لا يناسبه أن يعود لبنان دولة قوية واقتصاده مزدهر كما كان قبل عام 1975، لأن لبنان القوي يعني عودة المنافسة، وعودة الصوت الحرّ، وعودة التوازن في المنطقة. ولذلك، يعمل هؤلاء في الخفاء على إبقاء لبنان دولة ضعيفة، مفكّكة، مرهونة، تُدار بالأزمات وتُستنزف بالحروب.
تحت شعار “الاستقرار”، تُطرَح اليوم وساطات ومبادرات ظاهرها السلام وباطنها تكريس الانهيار. يروّج بعض الوسطاء لما يسمّونه “الخمول الاستراتيجي” — أي القبول بالأمر الواقع، وغضّ النظر عن سلاح حزب الله، والتسليم بأن الدولة لا تملك قرارها. إنها محاولة جديدة لإعادة إنتاج الوصاية بأدوات دبلوماسية، وتجميل السلاح غير الشرعي بشعار “الهدوء”، في حين أن هذا الهدوء المزعوم ليس سوى تجميدٍ للسيادة وتثبيتٍ للهيمنة.
الأسوأ أن هؤلاء يريدون للبنان أن يبقى ساحةً مفتوحة للحروب بالوكالة، حتى لا تشتعل النار في أماكنهم. يقولون صراحة: “خلي إسرائيل ملتهية بلبنان، أفضل من أن تنتقل الحرب إلينا”. هكذا ببساطة يُختصر مصير شعب كامل إلى ورقة توازن إقليمي، وإلى مساحة صراع تُستباح دماؤها كي ينام الآخرون مطمئنين خلف حدودهم المحمية.
لكننا جربنا هذا النوع من “الوساطات” سابقًا. اتفاق القاهرة عام 1969 الذي حوّل لبنان إلى ساحة للكفاح المسلح كان يُقدَّم يومها كحلّ سياسي ووسيلة لحماية القضايا الكبرى. النتيجة؟ دُمِّرت بيروت، وهُجّرت قرى بأكملها، ودفع اللبنانيون الأثمان الباهظة بينما الآخرون أبرموا اتفاقيات سلام مع إسرائيل وعاشوا في استقرار وازدهار.
اليوم، يعيد التاريخ نفسه بثياب جديدة. تُطبخ الصفقات في العواصم وتُسوَّق إلينا بوصفها “ضمانة للاستقرار”، فيما هي عمليًا وصفة جديدة لإبقاء لبنان تحت الوصاية، من دون قرار، من دون دولة، ومن دون سيادة.
علينا أن نكون يقظين أمام هذه المبادرات المشبوهة. فكل استقرار لا يمرّ عبر استعادة الدولة لقرارها وسلاحها وسيادتها، ليس استقرارًا، بل استسلامًا مقنّعًا(المصدر : transparency news)





