
خاص – بيروت بوست
قبل أن تطأ قدماه بيروت، قرر السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى أن يرسل رسائل صادمة من واشنطن إلى أركان السلطة اللبنانية، المراهنين على ان “يكون في صفهم”، استنادا الى اصوله اللبنانية، بعد ان خيب “الزحلاوي”، توم براك ظنهم، وفق ما بينه لقاءه مع الجالية اللبنانية، الذي اراده ابعد من حفل ترحيب بروتوكولي، ليلامس اختبارا مبكرا لنبض السلطة والشارع اللبنانيين معاً.
وفقا لاحد المشاركين، بدا عيسى في كلامه، صارما، حادا، محذرا، الحلفاء والخصوم، في السلطة وخارجها، مشددا على أنّ الحكومة اللبنانية يفترض ان تكون السلطة الشرعية الوحيدة، وأن “الجيش والمؤسسات يجب أن تحترم من دون تدخلات”.
لكن التحذير لم يتوقف عند هذا الحد: فـ”صبر المجتمع الدولي ليس بلا حدود”، قالها بصراحة، لتكون عبارته بمثابة إنذار شديد اللهجة لكل من يراهن على التباطؤ أو اللعب على التناقضات، مضيفا، “واشنطن مستعدة للمساعدة، لكن الوحدة الوطنية والمسؤولية الداخلية هما الشرط الأول لأي دعم”.
كلام رسم فيه عيسى، حدود مهمته وخطوط المعركة الأميركية الجديدة في لبنان: دعم مشروط، محاسبة صارمة، ونبرة لا تخفي الاستعداد لمواجهة أي خروقات تهدد الاستقرار أو مصالح واشنطن.
إنها مقدّمة فصل جديد في السياسة اللبنانية، عنوانه الصريح: “إما دولة مسؤولة، أو مواجهة أميركية مباشرة”.
مصدر سياسي مواكب عن قرب، لرحلة عيسى الدبلوماسية، رأى في تشديده على أنّ “الحكومة اللبنانية هي السلطة الشرعية الوحيدة التي تمثّل جميع المواطنين”، انهاء لمرحلة كاملة من التسامح الأميركي مع ازدواجية السلطة، اذ صحيح ان
العبارة قد تبدو دبلوماسية في ظاهرها، لكنها في عمقها تحدّد خطّاً أحمر جديداً: لا مؤسسات موازية، لا جيش غير الجيش، ولا قرار حرب وسلام خارج الدولة.
من هذا المنطلق هي عودة لواشنطن إلى مبدأ الحصرية الشرعية، في توقيت حساس تحاول فيه السلطة اللبنانية كسب الوقت.
وتابع المصدر، بان الجملة التي بدت للكثيرين، عابرة في نصّ السفير، هي في الواقع شكلت “بيت القصيد”، في اشارته إلى “المجتمع الدولي” بدل “الولايات المتحدة”، ما يعني أنّ هناك تنسيقاً غربياً كاملاً حول مقاربة جديدة للبنان، تنطلق من فكرة أنّ مرحلة التريّث انتهت.
من هنا فان الرسالة واضحة: إذا لم يتحرك لبنان لاستعادة قراره الداخلي وضبط فوضاه الأمنية والسياسية، فلن يكون بعد اليوم محمياً بالمظلة الدولية. بعبارة أخرى، الصبر الغربي بدأ ينفد، وورقة “الاستثناء اللبناني” لم تعد مضمونة على طاولة واشنطن.
وتوقف المصدر عند اختيار عيسى أن يتحدث عن “الشعب الأميركي” لا عن “المصالح الأميركية”، في تبديل ذكي للغة المواجهة، فبدلاً من مقاربة الصراع بصفته سياسياً أو عسكرياً، أعطاه بعداً أخلاقياً وإنسانياً، يُعيد إلى الأذهان سردية “الدفاع عن القيم” التي اعتمدتها واشنطن في ملفات أخرى، محوّلا بهذه الطريقة، المواجهة في لبنان من قضية أمنية إلى مسألة مبدئية تخص الرأي العام الأميركي والدولي، تمهيداً لأي تصعيد محتمل في المرحلة المقبلة.
عليه يقول المصدر انه من الواضح لغة “أن الشيك المفتوح للبنان قد انتهى”، وهو ما سينقله الموفدون الى بيروت في غضون الايام القادمة، فواشنطن
لم تعد مستعدة لضخّ الدعم المالي والعسكري والمؤسساتي بلا مقابل سياسي، وهو ما دفعها الى الضغط على باريس والرياض لفرملة مؤتمر دعم الجيش.
أما لجهة تأكيد عيسى على “الوحدة الوطنية والمسؤولية”، فهي إشارة مزدوجة إلى الداخل اللبناني: إلى القوى السياسية التي تتقاذف المسؤوليات، وإلى المؤسسات التي تخشى الاصطدام بالواقع القائم.
في الخلاصة، منذ حرب غزة واتساع رقعة التوتر مع إيران، تغيّرت النظرة الأميركية إلى لبنان. فواشنطن لم تعد ترى في بيروت ملفاً إغاثياً أو إنقاذياً، بل نقطة تماس مباشرة مع محور طهران.
فمع استلام ميشال عيسى،لمهامه منتصف الشهر القادم، يبدو أن الدبلوماسية الأميركية تتجه نحو سياسة “الضغط الذكي”: لا عقوبات شاملة قد تجرّ انهياراً إضافياً، بل ضغط موجّه على أدوات الدولة، الجيش، القضاء، المصرف المركزي، وعبرها.
فالهدف النهائي ليس إسقاط لبنان في فوضى جديدة، بل إعادة توازن القوى داخل الدولة لمصلحة المؤسسات الشرعية. وهنا يبرز دور عيسى، السفير الذي جاء بخلفية اقتصادية دقيقة، ليكون مهندس هذه المرحلة الانتقالية بين الانفتاح والصرامة.
صحيح ان ميشال عيسى لم يبدأ عمله بعد، لكنه بدأ اختبار الصدى، من واشنطن التي أطلق منها إشاراته الأربع.
فهل ستلتقطها السلطة اللبنانية كفرصة أخيرة لإنقاذ ما تبقّى من الدولة؟ أم ستُهدرها مجدداً، لتجد نفسها وجهاً لوجه أمام أميركا بلا دبلوماسية؟



