
خاص – بيروت بوست
في لحظة لبنانية رمادية، تتقاطع فيها التهديدات الإسرائيلية مع الانقسامات الداخلية، خرج حزب الله ببيان غير تقليدي في الشكل والمضمون، حمل عنواناً غير معلن لكنه واضح بين السطور: “نحن لا نُستدرج… ولا نُنتزع”.
فالبيان، الصادر في صيغة “كتاب مفتوح”، والموجه إلى الرؤساء الثلاثة، لم يكن مجرّد موقف سياسي، بل خريطة طريق جديدة يعلن عبرها الحزب تموضعه في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، محدداً خطوط التماس بين الشرعية والمقاومة، وبين الدولة والقرار المستقل.
فمن حارة حريك، وصلت الرسالة واضحة إلى بعبدا وعين التينة والسراي، ثم إلى واشنطن وتل أبيب:
لا تفاوض مع العدو… ولا نقاش في السلاح تحت الضغط، وان جاءت منسقة مع الرئاسة الثانية، وابلغت بها الرئاسة الاولى قبل نشرها.
بهذا الوضوح، أراد الحزب أن يُغلق الباب أمام أي مبادرة خارجية لإعادة إطلاق مفاوضات “الترتيبات الأمنية” مع إسرائيل، أو أي مقاربة داخلية تمسّ بموقعه العسكري والسياسي، عشية ابلاغه القاهرة “اعتذاره” عن السير بمبادرتها.
فالمعركة بالنسبة إليه لم تنتهِ مع الهدنة، بل دخلت مرحلة جديدة من «المقاومة السياسية»، عنوانها تثبيت المعادلة التي يعتبرها الحزب الضمانة الوحيدة لسيادة لبنان: الجيش… الشعب… والمقاومة.
لم يكن اختيار التوقيت والدلالات صدفة، فالبيان يأتي:
– بعد تصاعد الضغوط الأميركية لتثبيت وقف النار عبر مفاوضات جديدة.
-بعد ازدياد الجدل الداخلي حول دور الجيش ومرجعية القرار الأمني.
-في ظلّ حديث عن ترتيبات إقليمية ترسم “حدود الأدوار” في لبنان ما بعد الحرب.
في هذا السياق، يمكن قراءته كرسالة إلى المعنيين مفادها: المعادلة الذهبية باقية: الجيش والشعب والمقاومة، فلا تفاوض بلا قوة، ولا استقرار بلا توازن رعب.
من هنا لا بد من التوقف عند ابرز النقاط التي اراد حزب الله ايصالها:
– تثبيت الشرعية على قاعدة القرار 1701:
منذ الجملة الأولى، يستعيد الحزب موقعه في معادلة الشرعية، حين ربط وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024 بالقرار الدولي 1701 الصادر عام 2006، مقدّماً نفسه كمنفّذ فعلي للقرار لا كمتمرّد عليه.
بهذه الصياغة، أراد الحزب أن يقول: «نحن جزء من الحل، لا المشكلة». فالمقاومة، بحسب روايته، لم تخرق القرار بل التزمت به، فيما إسرائيل تواصل الخروق اليومية براً وبحراً وجواً.
الهدف من هذا التذكير القانوني مزدوج: أولاً، تحييد سلاح المقاومة عن أي نقاش داخلي تحت عنوان “الشرعية”، وثانياً، نقل النقاش إلى تفسير القرار لا إلى تطبيقه، أي أن المشكلة في “من يخرق” لا في “من يملك السلاح”.
اما بين السطور، فمحاولة واضحة لإقناع الرئاسة الجديدة بأن شرعية المقاومة لم تأتِ من فوق الطاولة السياسية، بل من ميدان الجنوب، حيث وُلد القرار 1701 نفسه.
– خرق إسرائيلي أم ذريعة للاستمرار؟
يقدّم الحزب نفسه في البيان كملتزم في مقابل عدوٍّ متفلت، لكنه في الوقت نفسه يترك الباب مفتوحاً لاستمرار جبهته جنوباً بحجة الردّ على الخروقات.
فهو يعتبر أن “العدو الإسرائيلي يفرض الحرب، لا يوقفها”، وبالتالي أي نقاش في وقف العمليات أو نزع السلاح هو انحراف عن أصل المشكلة.
هنا رسالته واضحة إلى الداخل: لا أحد يستطيع مطالبة الحزب بحصر السلاح طالما أن تل أبيب لا تلتزم. أما إلى الخارج، وتحديداً واشنطن، فالإشارة واضحة: من يريد التهدئة فليضغط على إسرائيل أولاً.
هكذا يكرّس البيان ما يشبه “مشروعية مفتوحة للمقاومة”، تحت عنوان الدفاع لا الهجوم، ليبقى السلاح في خانة “الضرورة الوطنية”، لا “الخطر الداخلي”.
– انتقاد الحكومة و”خطيئة الحصرية”
في فقرة بدت موجهة مباشرة إلى السراي الحكومي، يهاجم البيان بشكل مبطّن قرار الحكومة بشأن “حصرية السلاح بيد الدولة”، معتبراً إياه عربون حسن نية مجاني لإسرائيل، معتبرا ان هذا القرار “المتسرّع” استُخدم ذريعة لتصعيد المطالب الإسرائيلية حول نزع السلاح، وهو ما يصفه الحزب بالخطيئة الحكومية.
الرسالة هنا شديدة الوضوح: أي مسّ بسلاح المقاومة خارج التفاهم الوطني سيُقابل بتوتّر داخلي وربما انفجار سياسي. بمعنى آخر، لا تفاهم بلا مشاركة الحزب، ولا استقرار دون معادلة المقاومة.
– وحدة وطنية بشروط المقاومة
في الخاتمة، يرفع البيان شعار الوحدة الوطنية، لكن ليس بمعناها التقليدي. فالوحدة التي يقترحها الحزب مشروطة: أن تتوحّد الدولة خلف خيار المقاومة، لا أن تتقاطع معه من بعيد.
فالحزب يقول بوضوح إن إسرائيل لا تستهدفه وحده، بل لبنان بكل مكوناته، وإن أي نقاش حول السلاح يجب أن يكون في إطار “استراتيجية وطنية شاملة للدفاع”، ما يعني ان البيان، لا يمدّ اليد بقدر ما يمدّ الإطار الذي يجب أن تُمدّ فيه الأيدي. فالدعوة للوحدة هي دعوة تحت سقف المقاومة لا فوقه.
في الخلاصة، بيان حزب الله، ليس مجرد موقف سياسي، بل تقدير موقف ميداني، يكرّس من جديد هيكل القوة في لبنان: الجيش للحضور، الحكومة للإدارة، والمقاومة للقرار.
في الشكل، خطاب للوحدة الوطنية؛ في الجوهر، إعادة تثبيت أن القرار الاستراتيجي لا يزال خارج قصر بعبدا والسراي، مذكرا الداخل والخارج معاً بأن سلاح الحزب ليس على الطاولة، بل هو الطاولة نفسها، وأن كل مفاوضة أو هدنة لا تمرّ عبر “الجنوب المقاوم” ستبقى حبراً على ورق.
هكذا، بين رسائل التحذير والطمأنة، يعلن حزب الله تمسّكه بالثابتة الوحيدة في كل العواصف: نحن هنا… وسنبقى حيث يجب أن نكون”.





