“قمة الاسكا”: رسائل القوة وحدود التفاهم في زمن الاشتباك الجيوسياسي

خاص – بيروت بوست
ميشال نصر
في مشهد يعكس تحوّلات كبرى في التوازنات الجيوسياسية، انعقدت قمة طال انتظارها بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة “أنكوراج” بولاية ألاسكا.
قمة، هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في شباط 2022، اذ جاءت في توقيت بالغ الحساسية، وسط تصعيد ميداني في أوكرانيا، وشكوك غربية متزايدة حيال جدوى المفاوضات المباشرة مع موسكو خارج الأطر المؤسسية لحلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي.
اللافت في انعقاد القمة لم يكن فقط مكانها، على أرض أميركية شمالية، بل أيضاً الرمزية التي حملتها من حيث الشكل والمضمون، إذ ترافقت مع مظاهر استقبال رسمي غير تقليدية، فُسّرت على أنها رسالة من ترامب إلى الداخل الأميركي والخارج، مفادها أنه وحده القادر على “ضبط إيقاع الحرب” وإعادة صياغة العلاقات مع موسكو من موقع قوة.
في المقابل، قرأ الكرملين اللقاء على أنه اعتراف أميركي ضمني بضرورة الجلوس مع بوتين كندّ لا يمكن تجاهله، خصوصاً في ظل فشل الضغوط والعقوبات الغربية في كبح الطموحات الروسية.
فبين التصريحات العلنية والرسائل المبطنة، فتحت قمة ألاسكا نقاشاً عميقاً حول موازين القوى، أدوار الحلفاء، وحدود التسويات الممكنة في النظام العالمي المتغيّر. وإذا كانت القمة لم تُسفر عن نتائج ملموسة، إلا أنها شكّلت محطة استراتيجية مهمة تفتح الباب أمام مقاربة أميركية جديدة للحرب في أوكرانيا، عنوانها “الحوار مع الخصم” بدل المواجهة المفتوحة.
انطلاقا من ذلك يمكن التوقف عند النقاط التالية:
– لا يوجد اتفاق نهائي: فعلى الرغم من أن كلا الرئيسين قد وصف المحادثات بأنها “بناءة” و “مثمرة للغاية”، إلا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أو إنهاء الحرب في أوكرانيا.
– تصريحات متباينة: اذ اعلن ترامب إنه “تم الاتفاق على العديد من النقاط”، لكنه أكد أيضًا على أنه “لا يوجد اتفاق حتى يتم التوصل إلى اتفاق”. من جانبه، أشار بوتين إلى أنه توصل إلى “تفاهم” مع ترامب وحث أوروبا على عدم “عرقلة التقدم الناشئ”.
– غياب أوكرانيا: أثارت القمة انتقادات من قبل كييف وحلفائها الأوروبيين، حيث لم يشارك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المحادثات. وكان ترامب قد صرح بأنه لا يهدف إلى “التفاوض نيابة عن أوكرانيا”، ولكن لإحضار بوتين إلى طاولة المفاوضات.
– خطط لمحادثات مستقبلية: اذ أشار ترامب إلى احتمال عقد اجتماع ثلاثي لاحقًا يضم زيلينسكي وبوتين. كما قال بوتين إن المحادثات مع ترامب “تؤسس لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة” وأنهما قد يجتمعان “قريبًا على الأرجح”.
– رمزية الموقع: جاء اختيار ألاسكا، التي كانت جزءًا من روسيا سابقًا، ليحمل دلالة رمزية. فقد عقدت القمة في قاعدة عسكرية أميركية، مما وفر أقصى درجات الأمن وأبعد القمة عن أي احتجاجات محتملة.
عليه يمكن تقييم “قمة ألاسكا” على أنها خطوة أولية نحو استئناف الحوار بين الولايات المتحدة وروسيا، دون ان تحقق اختراقًا كبيرًا. فقد أظهرت النتائج المتباينة للقمة، وعدم التوصل إلى أي اتفاق ملموس بشأن أوكرانيا، أن الطريق نحو السلام لا يزال طويلًا ومليئًا بالتحديات.
فبالنسبة لترامب، كانت القمة فرصة لإظهار نفسه كـ “مفاوض محنك” وقادر على إنهاء الحرب التي وعد بوضع حد لها بسرعة. ومع ذلك، فإن عدم التوصل إلى اتفاق فوري يضعف هذا الادعاء.
اما فيما خص بوتين، فقد كانت القمة بمثابة انتصار دبلوماسي، حيث نجح في الخروج من عزلته الدولية منذ غزو أوكرانيا في عام 2022، وحصل على فرصة للتفاوض مباشرة مع الرئيس الأميركي، دون حضور أوكرانيا.
في الخلاصة، يمكن القول إن قمة ترامب – بوتين في ألاسكا لم تكن مجرد لقاء سياسي عابر، بل محطة مفصلية تعكس تصدّعات في النظام الدولي ومحاولة لإعادة صياغة المعادلات الاستراتيجية بعيداً عن المؤسسات التقليدية للقرار الغربي.
فاللقاء حمل رسائل متبادلة حول التوازن والردع، لكنه في الوقت نفسه كشف حجم التعقيدات المحيطة بأي تسوية كبرى بين واشنطن وموسكو.
وعلى الرغم من غياب نتائج ملموسة على الورق، إلا أن القمة شكّلت اختباراً أولياً للمرحلة المقبلة بين الطرفين، وما سيعنيه ذلك من تحولات في مقاربة واشنطن للعلاقات مع روسيا، وملفات النزاع الكبرى، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. فالمواجهة مستمرة، لكن لغة الحوار بدأت تتسلل مجدداً إلى قلب الصراع، في مؤشر على أن مرحلة جديدة من التفاوض الاستراتيجي قد تكون انطلقت، بصيغة أقرب إلى “صفقة كبرى” منها إلى تسوية موضعية.