قرار شعيتو: محاسبة مالية معلقة واستعادة ثقة مفقودة

خاص – بيروت بوست
ميشال نصر
في خضم أزمة مالية غير مسبوقة تضرب لبنان منذ خريف العام 2019، برز قرار المدعي العام المالي، القاضي ماهر شعيتو، كخطوة لافتة تحمل أبعادًا قانونية واقتصادية وسياسية عميقة.
فقد شكّل هذا القرار، القاضي بإلزام من حوّلوا أموالًا إلى الخارج خلال سنوات الانهيار المالي بإعادة ما يعادل تلك المبالغ إلى المصارف اللبنانية خلال مهلة شهرين، محاولة لإعادة الاعتبار لهيبة الدولة وموقع القضاء المالي، وسط ضغوط شعبية متصاعدة لاسترداد الأموال المهربة ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار.
قرار لم يأت من فراغ، بل يتزامن مع تصاعد الضغوط الدولية على لبنان لتطبيق معايير الشفافية ومكافحة تبييض الأموال، ومع تزايد القلق من الانكشاف المالي الكامل للدولة.
وفيما ما يرى البعض في القرار، خطوة متأخرة في مسار طويل من المماطلة، يعتبره آخرون بارقة أمل في استعادة جزء من الحقوق المنهوبة، وتحريك المياه الراكدة في ملف الإصلاحات المالية المجمّدة،
بوصفه يتخطى كونه إجراءً قضائيًا تقنيًا، ليصبح محكًا لموقف الدولة اللبنانية من محاربة الفساد واستعادة السيادة المالية.
١- أبعاد القرار:
– البُعد القانوني: يستند القرار إلى صلاحيات النيابة العامة المالية المنصوص عليها في المرسوم الاشتراعي رقم 150/1983، والذي يمنحها صلاحيات النائب العام التمييزي في نطاق الجرائم المالية. يُعتبر القرار تدبيرًا احترازيًا يهدف إلى حماية النظام الاقتصادي والمالي من خلال إعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج، والتي ساهمت في تفاقم الأزمة النقدية واستنزاف الاحتياطيات بالعملات الصعبة.
– البُعد الاقتصادي: يهدف القرار إلى إعادة ضخ الأموال في شرايين الاقتصاد الوطني، ورفع منسوب الثقة بالنظام المصرفي، ومعالجة آثار عمليات التحويل التي ساهمت في تفاقم الأزمة النقدية. كما يُعتبر خطوة نحو استعادة جزء من الأموال المنهوبة أو المهرّبة، ومنح المودعين أملًا ملموسًا باسترداد حقوقهم.
– البُعد السياسي والدولي: جاء القرار في ظل ضغوط دولية متزايدة على لبنان، مع إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) وتلميحات بإمكانية فرض عقوبات ما لم يتحرك سريعًا باتجاه سد مسارات تبييض الأموال واتخاذ إجراءات قضائية حيالها. يُعتبر القرار محاولة للامتثال للمعايير الدولية وتفادي العقوبات، وليس بالضرورة لحماية حقوق المودعين.
٢- دوافع القرار وأهميته
– مكافحة الفساد: يأتي القرار في إطار الجهود الرامية إلى استعادة الأموال العامة التي تم تهريبها بشكل غير قانوني، وهو يعكس إرادة قضائية للتحرك ضد الفساد المالي الذي أرهق الاقتصاد اللبناني.
– استعادة الثقة: يساهم هذا التحرك في إعادة بناء ثقة المواطنين في القضاء والدولة، بعد سنوات من الشعور بالإحباط تجاه غياب المحاسبة.
– تطبيق القوانين: يعزز القرار مبدأ سيادة القانون ويؤكد على أن الملاحقة القانونية تطال كل من يتورط في قضايا فساد، مهما كان نفوذه.
٣- التحديات والعوائق:
على الرغم من أهميته، يواجه القرار صعوبات جدية قد تعيق تنفيذه:
– العقبات القانونية: يتطلب استرداد الأموال المهربة إلى الخارج تعاونًا قضائيًا دوليًا، وهو ما يعتمد على الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف بين لبنان والدول التي توجد فيها الأموال، فقد تختلف القوانين في هذه الدول، وقد تكون إجراءاتها معقدة وبطيئة.
– التعاون الدولي: قد لا تكون بعض الدول مستعدة للتعاون بالسرعة المطلوبة، خاصة إذا كانت الأموال المهربة تعود لشخصيات نافذة أو إذا كانت التشريعات المحلية لديها تحمي سرية الحسابات المصرفية.
– التدخلات السياسية: قد تواجه جهود المدعي العام ضغوطًا سياسية هائلة من قبل جهات متنفذة قد تكون متورطة في تهريب الأموال أو مرتبطة بأصحابها. هذه التدخلات قد تؤثر على مسار التحقيقات.
٤- التحليل القانوني والإجرائي
لنجاح هذه الخطوة، يجب أن يتبع المدعي العام المالي مسارًا إجرائيًا دقيقًا:
– تحديد الأموال المهربة: يجب أولاً تحديد الأصول والأموال المهربة بدقة، وربطها بالأشخاص المتهمين.
– طلب المساعدة القضائية الدولية: يتوجب على المدعي العام إرسال طلبات رسمية للمساعدة القضائية إلى الدول المعنية، مدعومة بأدلة قوية.
– إقامة الدعاوى المدنية: يمكن رفع دعاوى مدنية في المحاكم الأجنبية لاسترداد الأموال، بالإضافة إلى الملاحقات الجنائية في لبنان.
في الخلاصة، يمثل قرار المدعي العام المالي ماهر شعيتو محطة مفصلية في المشهد القضائي والمالي اللبناني، إذ يضع للمرة الأولى إطارًا عمليًا لمساءلة عمليات تحويل الأموال إلى الخارج، ويعيد النقاش حول مفهوم العدالة المالية في بلد يعيش على وقع الانهيار والثقة المفقودة.
ورغم أن تنفيذ القرار لا يزال مرهونًا بإرادة سياسية وقضائية فعلية، إلا أنه يُعتبر مؤشرًا على تحوّل تدريجي نحو محاسبة المسؤولين عن تهريب الأموال، وفرض قواعد قانونية أكثر صرامة على القطاع المالي. وفي حال تفعيله بجدية، قد يشكّل خطوة أولى نحو إعادة ترميم الثقة الداخلية والدولية بمؤسسات الدولة.
ويبقى التحدي الأساسي في قدرة الدولة على الترجمة الفعلية لهذا القرار ضمن منظومة مترهلة، بين ضغوط السياسيين ونفوذ المصارف، لكنّه، في حد ذاته، رسالة بأن مسار المحاسبة لا يزال ممكنًا إذا ما توفرت الإرادة.