خاصأمن وقضاءإقليميدوليسياسةنزاعات وصراعات

قراءة في خطاب الشيخ نعيم قاسم: خطاب الثبات في زمن الانهيار

خاص – بيروت بوست

الذين انتظروا من الشيخ نعيم قاسم مداخلة ثقافية في احتفال إطلاق كتاب “الغناء والموسيقى – بحوث للإمام الخامنئي”، فوجئوا بخطاب سياسي بامتياز، مع تحول المناسبة الفكرية إلى منصة لتجديد بيان الهوية العقائدية والسياسية لحزب الله، في توقيتٍ يتسم بدقّة محلية وإقليمية غير مسبوقة. فالكلمات التي قالها نائب الأمين العام لم تكن عن الفن ولا عن حدود الحلال والحرام، بل عن حدود القوة والقرار والسيادة في لبنان.

من بداية كلامه، أعاد الامين العام، تثبيت المرجعية العليا للحزب في شخص الإمام الخامنئي، رابطًا بين الفكر الديني والقرار السياسي، ومؤكدًا أن البوصلة لا تزال تتجه نحو طهران، لا نحو بيروت. تأكيد ليس تفصيلًا عقائديًا، بل هو إعلان متجدد بأن حزب الله لا يرى نفسه حزبًا لبنانيًا محليًا فحسب، بل جزءًا من منظومة أوسع تتجاوز الحدود، تُعرّف المقاومة كهوية وجودية، لا كخيار سياسي قابل للنقاش.

ففي خطابه، وجّه الشيخ نعيم رسائل متعددة الاتجاهات، أبرزها إلى إسرائيل والولايات المتحدة الاميركية. للأولى، قال إن “العدو لم ولن يحقق أهدافه”، وللثانية، إن “التهديدات والعقوبات لن تغيّر في موقف المقاومة”. وهنا بدا الخطاب وكأنه بيان تعبئة جديد لجمهور الحزب، في لحظةٍ يُراد فيها تثبيت معادلة الردع، وتذكير الخصوم بأن أي تسوية داخلية أو إقليمية لا يمكن أن تتجاهل سلاح المقاومة أو مكانته في ميزان القوى.

بهذا المعنى، أراد الشيخ قاسم أن يقطع الطريق على أي وهمٍ لدى إسرائيل أو واشنطن بأن الحزب في موقع تراجع أو إعادة تموضع. فالرسالة واضحة: الحزب باقٍ على خط المواجهة، مهما اشتدت الضغوط المالية أو السياسية، ومهما تآكلت مؤسسات الدولة. بل إن الخطاب بدا وكأنه يقول ضمناً إن ضعف الدولة اللبنانية ليس مبرّرًا لنزع سلاح المقاومة، بل حجة إضافية للإبقاء عليه.

إلى الداخل

أما في الداخل، فكان لقاسم كلام أشبه بالتحذير: هناك من “يسعى إلى تجريد لبنان من مقوّمات قوّته”. المقصود هنا واضح، فالدعوات إلى الحوار حول سلاح حزب الله تُقرأ داخل الحزب كمحاولة لنزع “الشرعية المعنوية” عن المقاومة. ولذا، جاء الخطاب ليعيد ضبط البوصلة: لا نقاش حول الثوابت، ولا مساومة على السلاح، وأي حوار لا ينطلق من الإقرار بهذه الثوابت لن يُكتب له النجاح.

بعبارة أخرى، أراد الشيخ قاسم أن يقول إن المقاومة ليست بندًا تفاوضيًا في السياسة اللبنانية، بل “قدر وطني” لا يخضع لتسويات ولا لمعادلات داخلية. وهذا الكلام يضع سقفًا صارمًا لأي محاولة لاستئناف الحوار الوطني حول مستقبل السلاح، ويؤكد أن أي تغيير في المعادلة الأمنية أو الاستراتيجية سيبقى خارج متناول القوى السياسية التقليدية.

البعد الإقليمي

ما بين السطور، بدا الخطاب أقرب إلى تثبيت موقع الحزب داخل منظومة المحور الإيراني. فالإشارات المتكررة إلى فكر الإمام الخامنئي لم تكن عفوية، بل مقصودة لترسيخ ارتباط الحزب بالقيادة الإيرانية كمرجعية فكرية وسياسية. وهنا يكمن جوهر الرسالة: حزب الله ليس مجرد تنظيم لبناني مقاوم، بل ذراع متقدّمة لمحور يمتد من طهران إلى غزة مرورًا بدمشق وبيروت.

اختيار مناسبة ثقافية – دينية لتمرير هذا الخطاب السياسي ينسجم مع رؤية الحزب للمقاومة “كحضارة” تتجاوز الميدان العسكري إلى الفكر والثقافة. إنه أسلوب يوظّف الرمزية الدينية لتغطية مضمون سياسي ثقيل، ويُظهر مدى تداخل العقيدة بالاستراتيجية في خطاب الحزب.

لكن خلف الصيغة العقائدية المتماسكة، تكمن مخاطر سياسية واقتصادية واضحة. فإعادة تثبيت الارتباط السياسي بطهران في ظل عزلة لبنان المالية، قد يُعمّق الهوة بين بيروت والعواصم الغربية والعربية. كما أن تجديد خطاب “الثوابت” يبدّد أي أمل في مقاربة داخلية جديدة تتيح إعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمقاومة.

في المقابل، لا يمكن إنكار أن الحزب يقرأ الساحة من زاويته الواقعية: دولة مفككة، طبقة سياسية عاجزة، واقتصاد على منهار. في هذا السياق، يرى الحزب أن سلاحه هو آخر عناصر الردع وأداة التوازن الوحيدة بوجه ما يسميه “الوصاية الأميركية” ومحاولات “التطبيع مع العدو”. من هنا، يصبح خطاب قاسم امتدادًا لنهجٍ يرى في المقاومة ضمانة للبقاء، لا عائقًا أمام الدولة.

في الخلاصة، لا جديد جوهريًا في كلام الشيخ نعيم قاسم، لكنه يحمل تجديدًا واضحًا في التوقيت والدلالة. فالرجل لم يُقدّم موقفًا جديدًا بقدر ما أعاد تثبيت موقف الحزب في لحظةٍ مفصلية. إنه خطاب الثبات على ما كان، لا التغيير نحو ما يجب أن يكون.

فبهذا الخطاب، أعاد حزب الله تعريف المعادلة اللبنانية على طريقته: المقاومة أولاً، والدولة لاحقًا. وإذا كانت رسائل الخارج واضحة في مضمونها، فإن الرسالة الأهم تبقى للداخل اللبناني: لا رهان على تبدّلٍ قريب في عقل الحزب أو في منطقه.

إنه خطاب الثبات في زمن الانهيار، يعيد رسم الحدود بين المقاومة والدولة، ويذكّر اللبنانيين بأن البلاد لا تزال عالقة بين مشروعين لا يلتقيان: مشروع دولة تبحث عن سيادة مؤسساتها، ومشروع مقاومة ترى في نفسها سيادة بحد ذاتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى