
خاص – بيروت بوست
شكل خطاب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، نصا استراتيجيا متكاملا، يهدف إلى تحقيق عدة غايات سياسية وعسكرية، اذ بنى المتحدث حججه بشكل منهجي، مستخدماً العاطفة والمنطق والربط التاريخي، لتعزيز مواقفه وتوجيه جمهوره.
من هنا من الخطأ اعتبار هذا الخطاب مجرد سرد للأحداث، بل هو “وثيقة” سياسية واستراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق مجموعة من الأهداف على المستويين المحلي والإقليمي.
١- الاهداف الرئيسية للخطاب:
يمكن تقسيمه إلى عدة محاور رئيسية:
أ- البناء الأيديولوجي والشرعنة، من خلال الربط الديني والتاريخي:
يبدأ الخطاب بالربط بين الأحداث الراهنة ورموز دينية وتاريخية مهمة مثل النبي محمد والإمام موسى الصدر. وهذا ليس مجرد استعراض تاريخي، بل هو استراتيجية لشرعنة مواقف المتحدث ومنظمته.
– الهدف السياسي: إكساب الحزب صفة “إيمانية” و”رسالية”، وربطها بالجهاد والتضحية، مما يرفعه فوق مستوى الصراعات السياسية اليومية ويجعله جزءًا من مشروع أوسع وأعمق.
– الهدف الاستراتيجي: تعزيز الولاء العقائدي لدى المؤيدين، وإبطال حجة الخصوم التي قد تستخدم وصف الحركة بأنها “مجرد فصيل سياسي”.
ب- تحديد العدو وتوحيد الصفوف، من خلال الحديث عن ثنائية العدو (إسرائيل وأميركا):
يضع الخطاب إسرائيل والولايات المتحدة في خانة العدو الأول والأخطر للبنان والمنطقة، اذ يصف إسرائيل بـ”رأس الإجرام” و”الشر المطلق”، ويصف أميركا بأنها “خطر على لبنان” وتسعى لـ”تخريبه”.
– الهدف السياسي: تحويل الانتباه عن الأزمات الداخلية اللبنانية (الاقتصادية والسياسية) وتحميل مسؤوليتها بالكامل لجهات خارجية، بما يخدم استراتيجية “الشماعة” التي تبرر الفشل الداخلي بوجود مؤامرات خارجية.
– الهدف الاستراتيجي: توحيد صفوف الأنصار والمؤيدين تحت شعار مواجهة العدو المشترك، وتهميش أي دعوات داخلية للحوار أو التسوية باعتبارها “عمالة” أو “خضوعًا للإملاءات الأميركية الإسرائيلية”.
ج- الدفاع عن سلاح المقاومة وإعادة تعريفه:
يرفض الخطاب فكرة أن المقاومة “أدت وظيفتها” ويعيد تعريفها بشكل استراتيجي. يميز بوضوح بين “منع العدوان” و”مواجهة العدوان”.
– الهدف السياسي: الرد على الانتقادات الداخلية التي تطالب بنزع السلاح أو دمجه في الجيش اللبناني. فالخطاب يبرر استمرار وجود السلاح بأنه ضرورة لمواجهة العدوان المستمر، وليس مجرد وسيلة للدفاع عن الأراضي المحررة.
-الهدف الاستراتيجي: الحفاظ على القوة العسكرية للمقاومة كعامل ردع وحماية، وكأداة تأثير إقليمي. إظهار أن هذا السلاح هو الضمانة الوحيدة لعدم تعرض لبنان للاجتياح الإسرائيلي. يعزز الخطاب فكرة أن المقاومة هي “الروح” و”الشرف” و”الكرامة” للبنان.
د- توجيه رسائل للأطراف الداخلية:
١- رسالة إلى الحكومة اللبنانية: يوجه الخطاب تحذيراً شديد اللهجة للحكومة بشأن قرار “تجريد المقاومة من السلاح”، واصفا هذا القرار بأنه “خطيئة” و”غير ميثاقي” ويُتخذ تحت إملاءات أميركية.
– الهدف السياسي: وضع الحكومة في موقف حرج: إما أن تتبنى موقف المقاومة وتدعمها، أو تُتهم بالتخلي عن السيادة الوطنية والعمالة للأجنبي، بهدف منع أي تحركات جدية نحو نزع سلاح المقاومة.
-الهدف الاستراتيجي: استغلال الخطاب لدفع الحكومة للعمل وفق أجندة المقاومة. من هنا الدعوة إلى “استعادة السيادة الوطنية” عبر شعار محدد وتعبئة إعلامية هي محاولة للسيطرة على الخطاب العام وتحديد أولويات الدولة.
٢- رسالة إلى الأحزاب والنخب: يدعو الخطاب الأحزاب والنخب إلى “مساعدة الحكومة” في التفكير في كيفية استعادة السيادة، وتقديم مقترحات، والضغط إعلامياً.
-الهدف السياسي: خلق حالة من التعبئة الشعبية والسياسية المؤيدة لخطاب المقاومة، مما يضع القوى الأخرى أمام خيارين: إما الانضمام إلى هذا الخطاب والمطالبة بالسيادة (حسب تعريف المتحدث)، أو مواجهته والمخاطرة بالظهور بمظهر “المتخاذل” أو “التابع للأجنبي”.
– الهدف الاستراتيجي: كسب حلفاء جدد وتوسيع قاعدة التأييد، وإظهار أن المطلب هو مطلب “وطني جامع” وليس حزبيًا فقط.
ه- استراتيجية “خارطة الطريق” المبتكرة، ردا على دعوات التنازل:
يرفض الخطاب فكرة “خطوة بخطوة” في المفاوضات مع إسرائيل وأميركا. يضع شروطاً واضحة لأي حديث عن الاستراتيجية الدفاعية.
– الهدف السياسي: إلقاء الكرة في ملعب الخصم. يضع الخطاب شروطاً تعجيزية تقريباً (إخراج العدو من الأراضي، وقف العدوان، الإفراج عن الأسرى) قبل أي نقاش حول السلاح.
– الهدف الاستراتيجي: الحفاظ على الوضع الراهن وتأجيل أي نقاش قد يؤدي إلى المساس بسلاح المقاومة. هذا يمنح الحركة الوقت والمبادرة، ويجعل أي فشل في التوصل إلى حل يقع على عاتق إسرائيل وأميركا.
٢- استراتيجيات الخطاب: يستخدم الخطاب استراتيجيات إقناعية متنوعة:
أ- “باثوس” (Pathos – العاطفة): يستحضر المشاعر الدينية والوطنية، وذكرى الشهداء، والتضحيات. استخدام كلمات مثل “العزّة”، “الشرف”، “الكرامة”، “الدم” يهدف إلى بناء روابط عاطفية قوية مع الجمهور.
ب- “لوغوس” (Logos – المنطق): يعيد تعريف المقاومة بشكل منهجي ليبرر استمرار وجودها. يقدم “خارطة طريق” لحل المشاكل اللبنانية، يربطها بشكل مباشر بالانسحاب الإسرائيلي.
ج- “إيثوس” (Ethos – المصداقية): يعزز المتحدث من مصداقيته من خلال الحديث كخبير استراتيجي يحلل الوضع، ويربط الحاضر بالماضي، ويقدم رؤية للمستقبل. كما أنه يستند إلى شخصيات تاريخية مهمة مثل النبي محمد (ص) والإمام موسى الصدر، مما يمنحه ثقلاً إضافياً.
د- يؤطر الخطاب كل قضية بطريقة تخدم مصالحه:
– فشل الدولة يؤطر كـفشل في استعادة السيادة بسبب إسرائيل وأمريكا.
-سلاح المقاومة يؤطر كـأداة للدفاع عن السيادة، وليس كسبب للمشاكل.
-الانتقادات الموجهة للمقاومة تؤطر كـغباء سياسي أو عمالة للأجنبي.
ه- الاستقطاب (Polarization): يقسم الخطاب الأطراف بوضوح: “نحن” (المقاومة والشعب المقاوم) مقابل “هم” (إسرائيل، أمريكا، ومن يتعاون معهما في الداخل). هذا يسهل تعبئة الأتباع وتهميش المعارضين.
٣- الرسائل الأساسية:
أ- المقاومة ليست مشكلة، بل هي الحل: المقاومة هي ضمانة لبنان ضد الأطماع الإسرائيلية، وهي جزء لا يتجزأ من استراتيجية الدفاع.
ب-السيادة الوطنية هي الأولوية القصوى: لكن هذه السيادة لا يمكن تحقيقها إلا بمواجهة العدو الخارجي، وليس عبر نزع سلاح المقاومة.
ج- إسرائيل وأميركا هما مصدر كل مشاكل لبنان: أي حلول داخلية لا تأخذ هذا الأمر في الاعتبار هي حلول مضللة وغير مجدية.
د- الاستسلام ليس خياراً: البديل عن المقاومة ليس الاستقرار، بل هو الاستسلام لإسرائيل، وهذا أمر غير مقبول.
في الخلاصة يشكل الخطاب استراتيجية شاملة لإدارة الصراع على مستويات متعددة، حيث يستخدم التاريخ والدين لشرعنة الوجود العسكري، وثنائية العدو لتبرير الأزمات الداخلية، والضغط السياسي والتعبئة الشعبية لتحقيق الأهداف، مع رفض أي حلول لا تتفق مع رؤيته للأمن والدفاع.
وعليه، يبقى الهدف النهائي، ليس فقط الدفاع عن لبنان، بل إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني والإقليمي بما يخدم مصالح المقاومة وحلفائها، مع الحفاظ على دورها كقوة عسكرية وسياسية لا غنى عنها.