سياسةنقطة فاصلة

دوائر جبل لبنان: أم المعارك العونية

مع اقتراب الاستحقاق النيابي لعام 2026، تعود السخونة السياسية إلى المشهد اللبناني، خصوصاً في دوائر جبل لبنان التي تشكّل القلب المسيحي للمعركة النيابية، حيث تتقاطع الحسابات الانتخابية مع الصراعات السياسية والشخصية بين القوى المسيحية الكبرى، وعلى رأسها التيار الوطني الحر الذي يجد نفسه أمام واحدة من أعقد المعارك في تاريخه الحديث.

التيار، الذي مثّل لسنوات القوة المسيحية الأولى، يدخل المعركة من موقع مختلف كلياً عمّا كان عليه في انتخابات 2018 و2022. فالعلاقة المتوترة مع حزب الله بعد الاهتزاز الذي أصاب تفاهم مار مخايل، والمواجهة المفتوحة مع القوات اللبنانية، والبرود السياسي مع الكتائب والمردة، عوامل تُضعف قدرته على بناء تحالفات ثابتة وواسعة، ما يدفع ميرنا الشالوحي باتجاه اعتماد مقاربة جديدة قائمة على التحالفات الموضعية والبراغماتية، بدل التحالفات الشاملة ذات الطابع السياسي أو الإيديولوجي.

في هذا الاطار، يشكّل جبل لبنان الميدان الأكثر حساسية ورمزية بالنسبة للوطني الحر، فهو المنطقة التي انطلق منها التيار، ومنها حصد انتصاراته السياسية الكبرى، من هنا بات الحفاظ على موقع وازن في هذه الدوائر مسألة بقاء سياسي، أكثر منه مجرد منافسة انتخابية.استنادا الى ذلك، تتجه الأنظار إلى كيفية تموضع التيار الوطني الحر في دوائر كسروان – جبيل، المتن الشمالي، بعبدا، والشوف – عاليه، حيث تتشابك مصالحه مع القوى التقليدية من جهة، وتطلعاته إلى تجديد صورته من جهة أخرى.

فبين ضغوط الشارع المسيحي، وحسابات الرئاسة المقبلة، يسعى التيار إلى رسم خريطة تحالفات جديدة تضمن له البقاء في قلب المعادلة الوطنية، ولو بثمن الواقعية الانتخابية وتبدّل الثوابت القديمة، ما يضعه أمام تحدٍّ غير مسبوق: كيف يحافظ على وجوده السياسي في معاقله التقليدية، بعدما تبدّلت خريطة التحالفات والتوازنات السياسية؟

وفقا للمعطيات التي تتقاطع عندها اكثر جهة، يمكن رسم الصورة التالية، على بعد أشهر من الاستحقاق:

– كسروان – جبيل، يسعى التيار إلى موازنة معقدة بين الاستقلالية المسيحية والتفاهم الانتخابي مع حزب الله في المقعد الشيعي. كما يفتح قنوات تواصل مع شخصيات محلية وازنة، بحثاً عن تحالف اقتصادي – انتخابي يعيد له جزءاً من وزنه، علما ان الامور تتجه نحو تحالف سيمون ابي رميا – نعمت فرام – فارس سعيد، في هذه الدائرة، في مقابل شبه حسم لترشيح المحامي وديع عقل على لائحة التيار، مع عودة بارزة للدكتور محمود عواد للظهور في احتفالات التيار.

– المتن الشمالي، المعركة الرمزية للتيار، بات من شبه الحسوم  التحالف مع الطاشناق، الذي يشكل بيضة القبان في الدائرة، والنائب ميشال المر، فيما يعتبر النائب السابق عن المقعد الكاثوليكي ادي معلوف من الثوابت، في وقت يواجه فيه التيار تحدي تحالف الثنائي الياس بوصعب – ابراهيم كنعان، المدعومان من “العهدويين”.

– بعبدا، الواقعية الانتخابية تدفع التيار إلى تنسيق متجدد مع الثنائي الشيعي، حيث تفرض الحسابات المشتركة تحالفاً انتخابياً لا سياسياً، يؤمّن للبرتقالي فرصة الاحتفاظ بمقعدين مسيحيين في دائرة مختلطة يشترك فيها الشيعة والدروز. اشارة على هذا الصعيد، الى ان رهان “العهدويين” على استمالة قواعد وقيادات خارجة من الاحزاب التقليدية لم ينجح حتى الساعة في تحقيق أي نتائج.

– الشوف – عاليه، فيبدو التيار أقرب إلى اعتماد تحالف الضرورة مع وئام وهاب بالمباشر وطلال أرسلان بشكل غير مباشر، لتأمين حضوره في مواجهة لائحة “الاشتراكي- القوات” التي قد تضم الكتائب اليها في حال نجحت الاتصالات. هذه التحالفات، وإن كانت غير منسجمة سياسياً، إلا أنها تعبّر عن محاولة واضحة لتثبيت موقع انتخابي في منطقة شبه مغلقة.

وفقا لتلك القراءة الأولية، يمكن للتيار ان يحقق ما بين 7 الى 8 مقاعد من أصل 31 في دوائر جبل لبنان، أي نحو 25% من الحصة النيابية، وهو رقم أقل من إنجازات 2018 لكنه كافٍ للحفاظ على موقعه كقوة مسيحية اساسية.

في المحصلة، يواجه التيار مرحلة إعادة تموضع صعبة، يحاول فيها الحفاظ على وجوده وبقائه. فالمعركة المقبلة في جبل لبنان لن تكون فقط معركة مقاعد، بل اختباراً لقدرة التيار على إعادة بناء شبكة تحالفاته وتكييف خطابه بين السيادة والواقعية، في زمن تتبدّل فيه التحالفات كما تتبدّل موازين القوى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى