
خاص – بيروت بوست
لم تكن مواقف توم براك الأخيرة تجاه حزب الله مجرد تعليقات إعلامية أو تحليلات عابرة. فالأسلوب الذي استخدمه، وتوقيت التصريحات، والسياق الإقليمي الذي جاءت فيه، كلها مؤشرات على أن الرجل ينطق بما يتجاوز حدود الرأي الشخصي، ويمثل في الجوهر رسائل أميركية مدروسة تُستخدم لتهيئة بيئة سياسية جديدة تتعلق بدور الحزب في المرحلة المقبلة.
– أولًا: لغة جديدة ولكنها ليست عفوية:
تميّزت تصريحات براك حول حزب الله بلغة مزدوجة تجمع بين:
– مقاربة نقدية واضحة لدور الحزب
– إيحاءات لحتمية ترتيبات جديدة، قد يكون الحزب جزءًا منها أو هدفًا مباشرًا لها.
هذه اللغة ليست تقليدية لدى الموفدين الأميركيين، الذين كانوا يميلون سابقًا إلى خطاب صدامي أو تحذيري. أمّا براك فاعتمد أسلوبًا أقرب إلى “الترويض الناعم”، ما يشير إلى أنّ واشنطن تُحضّر لمقاربة مختلفة لا تقوم على الصدام المباشر، بل على إعادة هندسة البيئة السياسية حول الحزب.
– ثانيًا: براك يختبر حدود المناورة لدى الحزب:
جاءت تصريحاته في لحظة حساسة، حيث:
– الجنوب يقف على مفترق تسوية أو تصعيد.
– إسرائيل تعاني من مأزق سياسي – عسكري يحدّ من قدرتها على فرض شروط.
– واشنطن تبحث عن آلية تُدار بها خطوط التماس من دون حرب شاملة.
في هذا السياق، بدا براك وكأنه يلمّح إلى أنّ الدور العسكري والسياسي للحزب تحت المراقبة الأميركية، وأنّ هناك رغبة في معرفة:
– مدى استعداد الحزب للانخراط في تسوية حدودية.
– مدى قبوله بإعادة تعريف قواعد الاشتباك.
– مدى استعداده لتقديم تنازلات في إطار صفقة أكبر تشمل لبنان وسوريا.
بمعنى آخر، تصريحات براك ليست للتصعيد، بل لجسّ نبض قدرة الحزب على التكيّف.
– ثالثًا: الضغط الناعم… بديلاً من المواجهة:
بدل الخطاب التقليدي الذي يربط الحزب بإيران أو بـ “نفوذ مرفوض”، اختار براك خطابًا حضاريًا–سياسيًا يتحدث عن “روابط مشتركة” و”فضاء مشرقي واحد”. هذه اللغة ليست بريئة، فهي تهدف إلى:
– تحويل الضغط المباشر إلى تطويق سياسي تدريجي
– تمرير رسائل من دون إثارة حساسية جمهور الحزب
– خلق صورة أميركية جديدة تُظهر نفسها كشريك في الحل وليس كعدو.
أما الهدف، فهو تحييد جزء من البيئة الحاضنة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية من الضغط.
– رابعًا: تمهيد لتسوية جنوبية قد تطال الحزب مباشرة:
تصريحات براك تزامنت مع حركة ديبلوماسية حول مستقبل الجنوب اللبناني، ما يشير إلى أن واشنطن تُحضّر لأحد السيناريوين:
– تثبيت خطوط جديدة على الحدود وتحويل دور الحزب من لاعب عسكري مباشر إلى جزء من “منظومة ردع منضبطة”.
– فرض ترتيبات أمنية دولية – لبنانية، تحتاج إلى موافقة ضمنية أو صامتة من الحزب، أو إلى قبول تسوية تُخفف من حضوره العسكري جنوبًا.
وفي الحالتين، كلام براك يبدو كأنه تمهيد لصفقة لا يمكن فرضها بالقوة، لكن يمكن تمريرها بالضغط الناعم.
– خامسًا: محاولة إدخال الحزب في معادلة لبنانية–سورية جديدة: حين يربط براك مستقبل لبنان بسوريا، فهو يربط تلقائيًا دور حزب الله بالملف السوري. الهدف قد يكون:
– وضع الحزب أمام خيارات متناقضة
– إدخاله في إطار تفاوضي إقليمي
– فرض مقاربة جديدة تضبط وجوده العسكري الممتد بين الجبهتين
فتصريحات براك تُلمّح إلى أنّ أي تسوية في سوريا أو لبنان لن تتم من دون إعادة تعريف موقع الحزب في هذه المعادلة.
– سادسًا: واشنطن تفتح باب “الأفكار الخطرة”، بلا إعلان رسمي: فالتصريحات الأخيرة تحمل بين سطورها محاولة واضحة لـ:
– اختبار مدى قبول الجمهور اللبناني بمقاربة جديدة تجاه الحزب
– تمرير فكرة أن دور الحزب لا يمكن أن يبقى على حاله
– التنبيه بأنّ مرحلة ما بعد حرب غزة ستفرض “وقائع مختلفة” على الجميع.
هذه الرسائل لا تُقال صدفة، بل تُستخدم كبالونات اختبار قبل الانتقال إلى خطوة سياسية أكبر.
التقدير النهائي
ما يخفيه توم براك خلف تصريحاته الأخيرة حول حزب الله ليس تصعيدًا مباشرًا، بل إطارًا تمهيديًا لتحولات أكبر تُخطط لها واشنطن في الجنوب، وفي العلاقة اللبنانية–السورية، وفي شكل النفوذ الإيراني في المشرق، وهو باختصار:
واشنطن لا تذهب إلى المواجهة، لكنها لا تريد بقاء الحزب خارج إطار التسويات، وتستخدم براك لتهيئة المسرح السياسي والنفسي قبل فتح ملفات أكثر حساسية.
إنها ليست تصريحات عابرة… بل بداية مرحلة جديدة من الضغط المنضبط، يختبر عبرها الأميركيون حدود القوة والمرونة لدى حزب الله قبل رسم الخطوة التالية.



