
خاص – بيروت بوست
تشير مواقف رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، في الذكرى السنوية الأولى للعملية العسكرية الإسرائيلية على لبنان، إلى تحوّل لافت في طبيعة الخطاب الرسمي اللبناني، وتحديداً من قبل رأس السلطة التشريعية، في توقيت بالغ الدقة والحساسية.
ففي ظل ما تشهده المنطقة من تصعيد متدرج، وفي ضوء التحركات الأميركية – الإسرائيلية المتسارعة التي تستهدف المعادلات الأمنية في الجنوب، جاءت تصريحات “أبو مصطفى” لتؤكد تمسك لبنان، كمؤسسات ومكونات، باتفاق وقف إطلاق النار، مع تحميل إسرائيل مسؤولية خرقه.
الأهم في هذا السياق، أن موقف رئيس المجلس جاء أيضاً كرد مباشر على الموفد الأميركي وما اعتبره “توصيفاً مرفوضاً” للمؤسسات اللبنانية، ما يكشف عن عمق التوتر القائم بين المقاربة الأميركية للملف اللبناني، وبين ما يعتبره محور المقاومة، دفاعاً عن السيادة ومعادلات الردع.
في موازاة ذلك، لم يغب عن بيان بري البُعد الداخلي، حيث وجّه انتقادات مبطنة لأداء الحكومة، محذّراً من التردد في معالجة الملف الإنساني الناجم عن العدوان، ليؤكد أن الاستحقاقات الاجتماعية هي جزء لا يتجزأ من السيادة الوطنية، في رسالة مزدوجة إلى الداخل والخارج.
من هنا، تكتسب هذه التصريحات طابعاً استراتيجياً يتعدى مناسبة الذكرى، لتمثل موقفاً سياسياً شاملاً في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، ومقدمة لمرحلة أكثر تعقيداً في الصراع على موقع لبنان ودوره ضمن معادلات المنطقة.
١. سياق الرسالة وأهدافها الاستراتيجية:
تتخطى رسالة رئيس مجلس النواب، كونها مجرد بيان تذكاري، لتكون وثيقة سياسية تحمل رسائل متعددة الأوجه، ابرزها:
أ- الرسالة الداخلية (الموجهة للجمهور اللبناني): يهدف البيان إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وتوحيد الصفوف خلف المقاومة، وإظهار أن الحرب لم تكن موجهة ضد فئة معينة بل ضد لبنان بأكمله. يتم ذلك من خلال:
١- تأكيد البطولة والتضحية: يركز بري على الشهداء، خاصة الأطفال، والمقاومين. هذا الاستذكار ليس عاطفيًا فقط، بل هو محاولة لتأصيل فكرة أن المقاومة هي حامية لبنان.
٢- التأكيد على الوحدة: يشير البيان إلى أبناء القرى من كل المناطق (الجنوب، البقاع، الضاحية، بيروت، الشمال، الجبل) الذين “جسدوا أصالة الانتماء ورسخوا الوحدة الوطنية”. هذه النقطة بالغة الأهمية في سياق بلد يعاني من انقسامات طائفية حادة.
٣- تحويل النزاع من طائفي إلى وطني: يختتم بري بيانه بالقول إن “العدوان الإسرائيلي… استهداف لكل لبنان ولكل اللبنانيين”، مما يحول الصراع من نزاع بين إسرائيل و”حزب الله” إلى صراع بين إسرائيل ولبنان كدولة وشعب. هذه محاولة لشرعنة المقاومة في الوعي الوطني اللبناني.
ب- الرسالة الخارجية (الموجهة للمجتمع الدولي والولايات المتحدة):
١- الالتزام بالقرار الدولي: يؤكد البيان على “تجديد تمسكنا باتفاق وقف إطلاق النار”، وهو رسالة موجهة للمجتمع الدولي تؤكد التزام لبنان بالقرارات الدولية.
٢- إلقاء اللوم على إسرائيل: يلوم بري إسرائيل على “خرقها وعدم الوفاء بأي من الالتزامات” مثل الانسحاب من الأراضي المحتلة وإطلاق سراح الأسرى، ما يضع الكرة في ملعب إسرائيل ويبرر أي تصعيد محتمل من وجهة نظر المقاومة.
٣- رفض التوصيفات الأمريكية: يرفض البيان بشكل قاطع “توصيف” الموفد الأميركي للحكومة والجيش والمقاومة، ويعتبره “مرفوضاً بالشكل والمضمون”، ما يعني رفض لبنان للضغوط الأميركية التي تهدف إلى الفصل بين هذه الكيانات الثلاثة، وهو ما يعكس ترابطها في الواقع السياسي اللبناني.
٤- الدور الاستراتيجي للجيش اللبناني: يوضح بري موقفاً معقداً من الجيش اللبناني، حيث يؤكد أنه “ليس حرس حدود لإسرائيل” و”سلاحه ليس سلاح فتنة”، مما يشير إلى أن الجيش هو حليف للمقاومة وليس خصماً لها، في مقابل رغبة دولية في جعله خصماً مسلحاً للمقاومة.
٢. تحليل استراتيجي للمحاور الرئيسية:
واضح ان الرئيس نبيه بري قصد مخاطبة جمهوره الداخلي في لبنان، وخاصة الطائفة الشيعية التي يمثلها، مرسلا في الوقت نفسه رسائل واضحة إلى الحلفاء والأعداء في الخارج، مركزا على:
أ- علاقة الجيش والمقاومة: أحد أهم النقاط الاستراتيجية في النص هي كيفية تعريف علاقة الجيش اللبناني بالمقاومة، حيث ربط بري بينهما بشكل وثيق، واصفا الجيش بأنه “الرهان الذي نعلق عليه كل آمالنا”، رافضا في المقابل أن يكون دوره “حرس حدود لإسرائيل”، ما يعيد احياء استراتيجية “الجيش والشعب والمقاومة” التي يتبناها محور المقاومة في لبنان.
ب- البيان الوزاري: يشير بري إلى “البيان الوزاري” للحكومة، مما يربط قضايا مثل صرف التعويضات بأهداف سياسية أوسع، ما يظهر استخدامه قضايا إنسانية للضغط على الحكومة لتحقيق مكاسب سياسية.
ج- الرمزية والخطاب: يستخدم النص لغة رمزية قوية (“أنجماً وأقماراً”، “أرض محروقة”) للتأثير العاطفي على المتلقي، وكذلك استخدامه لكلمات مثل “العملية العدوانية” بدلاً من “الحرب” أو “العدوان”، ما يعكس موقفًا سياسيًا محسوبًا.
البيان ليس مجرد تحية عاطفية للشهداء، بل هو بيان سياسي واستراتيجي متعدد الأوجه. إنه يرسل رسائل قوية إلى الداخل والخارج، ويؤكد على مكانة المقاومة في الوعي الوطني، ويوضح موقف لبنان من القضايا الدولية الرئيسية مثل القرار 1701، والعلاقة مع الولايات المتحدة، ودور الجيش اللبناني. إن هذا النص يمثل استراتيجية لبنانية تهدف إلى تحقيق التوازن بين الالتزام بالقرارات الدولية والمحافظة على قوة المقاومة، بينما يلقي باللوم على إسرائيل في خرق التزاماتها.