تقدير موقف | “مسيّرة فوق قلب الردع النووي الفرنسي… هل كسرت قواعد اللعبة؟
خاص – بيروت بوست
تسلّل طائرة مسيّرة مجهولة فوق قاعدة الغواصات النووية الفرنسية في إيل لونغ ليس حادثًا عابرًا يمكن وضعه في خانة “الاستفزازات التقنية” أو “الأخطاء الفردية”. نحن أمام واقعة تمسّ مباشرةً أحد أكثر المواقع حساسية في أوروبا، وتحديدًا البنية التي تحفظ “سلسلة الردع النووي” الفرنسي، العمود الفقري لاستراتيجية الأمن القومي للجمهورية الخامسة منذ عقود.
فهذه القاعدة ليست مجرد منشأة عسكرية، بل هي قلب ما يُعرف بقوة الضربة الثانية التي تراهن عليها باريس لضمان توازن الردع في مواجهة أي تهديد وجودي. وبالتالي، فإن الاقتراب منها، ولو عبر طائرة صغيرة غير مأهولة، يشكّل اختراقًا ذا دلالات عالية الخطورة، لكونه يطاول القدرات التي تعتمد عليها فرنسا للحفاظ على هيبتها الاستراتيجية وصدقيتها الردعية داخل الناتو وخارجه.
اللافت أن هذا النوع من الحوادث يتزامن مع مرحلة شديدة الاضطراب في البيئة الأمنية الأوروبية، حيث تصاعد التوترات مع روسيا، وارتفاع وتيرة الهجمات السيبرانية، وتنامي ظاهرة “الاختبارات الرمادية” التي تقوم بها دول أو جهات فاعلة عبر وسائل غير تقليدية: طائرات مسيّرة، عمليات استطلاع منخفضة التوقيع، أو اختراقات بالغ الدقة تهدف إلى اختبار يقظة الخصوم.
ومع أن التحقيقات الفرنسية ما زالت جارية، فإن مجرد حصول التحليق فوق موقع نووي استراتيجي يعكس تطورًا لافتًا في أدوات جمع المعلومات وقدرات الاقتراب من أهداف محصّنة، ما يفتح الباب أمام عشرات الأسئلة حول مستوى الحماية، وثغرات المراقبة الجوية، ومدى قدرة الدفاعات الحالية على مواكبة تهديدات منخفضة الارتفاع وسريعة التطور.
الأهم من كل ذلك أن الحادث، بصرف النظر عن الفاعل، يحمل رسالة سياسية وأمنية مزدوجة:
- الأولى، أن الخصوم المحتملين قادرون على الوصول إلى مناطق يُفترض أنها «مغلقة» ومحاطة بدفاعات متعددة الطبقات.
- الثانية، أن سباق التقدّم في عالم الطائرات المسيّرة بات يسبق بنية الحماية التقليدية، الأمر الذي يفرض على فرنسا إعادة النظر في منظومات رصدها، وإجراءات الاشتباك، ودرجة التنسيق بين أذرعها العسكرية والأمنية والاستخباراتية.
من هنا، يصبح هذا الحادث ليس مجرد حدث أمني، بل إشارة إنذار استراتيجي على أن زمن الحروب “الصامتة” فوق المنشآت الحساسة قد بدأ، وأن اختبار الجاهزية أصبح جزءًا من اللعبة الدولية الجديدة، حيث تُستخدم المسيّرات كرسائل، وكرؤوس تجسّس، وكأدوات لقياس ردود الفعل قبل التفكير في عمليات أكبر.
وعليه، فإن تحليل هذه الواقعة لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار السياق الدولي الأوسع، وتوازنات الردع، وطبيعة اللاعبين الذين قد يستفيدون من المسّ بموقع بهذا المستوى من الحساسية.




