تقدير موقف | ما بعد الحرب: اسرائيل بلا نصر وغزة بلا سلام

خاص – بيروت بوست
بعد شهور طويلة من المواجهة الأعنف في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بدأت تتوالى المؤشرات التي توحي بأنّ الحرب في غزة دخلت مرحلتها الأخيرة، أو على الأقل خرجت من ميدان النار إلى ميدان السياسة، اذ مع تسليم حركة حماس جميع الأسرى الإسرائيليين بموجب اتفاق برعاية أميركية – قطرية – مصرية، عاد السؤال الجوهري ليطرح نفسه بقوة: هل انتهت الحرب فعلاً؟ أم أن ما جرى ليس سوى فصلٍ جديد من حربٍ أوسع تُدار بوسائل أخرى؟
المشهد الميداني وإن شهد هدوءاً نسبياً، إلا أنّ توازنات ما بعد الحرب لا تزال غامضة ومفتوحة على احتمالات متناقضة: إسرائيل، التي خرجت من المعركة وهي ترفع شعار “النصر الغامض”، تواجه أزمة سياسية وأمنية داخلية غير مسبوقة، فيماما حماس، رغم خسائرها الفادحة، تحاول أن تكرّس نفسها طرفاً تفاوضياً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة فلسطينية جديدة، اقله بعد اعجاب الرئيس ترامب بمفاوضيها.
بين هذين الطرفين، تتقاطع حسابات القوى الإقليمية والدولية: من واشنطن، التي تبحث عن استثمار سياسي للهدوء، إلى طهران التي ترى في صمود “المقاومة” ورقة استراتيجية في صراعها المفتوح مع إسرائيل والغرب.
وفي خلفية كل ذلك، يقف الملف الإنساني والاقتصادي لغزة كأحد أعقد التحديات، حيث ستحدد إعادة الإعمار وإدارة القطاع بعد الحرب، ما إذا كانت نهاية العمليات العسكرية تمهّد فعلاً لسلامٍ هشّ، أم لبداية صراع جديد بأدوات مختلفة.
هكذا، يبدو أنّ تسليم الأسرى الإسرائيليين قد أغلق الباب أمام استمرار الحرب بالنار، أقله مبدئيا، لكنه فتح أبواباً متعددة للحرب بالسياسة والمصالح والتحالفات، ما يجعل السؤال عن نهاية الحرب سؤالاً ناقصاً من دون النظر إلى ما بعدها.
١- حرب الأهداف:
تحاول إسرائيل تصوير استعادة الأسرى كنصر يبرر خسائرها الهائلة ويمنح الحكومة المتصدعة جرعة بقاء سياسي. غير أنّ المعارضة، من غانتس إلى لابيد، ترى أن ما جرى هو نهاية اضطرارية لحرب خاسرة أظهرت فشل الجيش في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، وأدخلت تل أبيب في مأزق وجودي مزدوج: أزمة ثقة داخلية، واهتزاز في الردع الخارجي.
من جهتها، تدرك حماس أنّ تسليم الأسرى سيسحب من يدها ورقة ضغط ثمينة، لكنها تراهن على أن صمودها طوال الحرب وقدرتها على فرض اتفاقٍ برعاية دولية سيمنحها شرعية تفاوضية ضمن أي صيغة لإدارة غزة لاحقًا، في ظل انتقال الحركة من منطق “القتال من أجل البقاء” إلى منطق “المشاركة في تقرير المصير”.
٢- واشنطن: إدارة التسوية
بالنسبة لواشنطن، يمثل تسليم الأسرى النقطة التي يمكن معها إعلان نهاية النزاع العسكري، وبدء مرحلة ما بعد الحرب، ما يفتح الباب أمام تنفيذ المرحلة السياسية من مبادرة ترامب الجديدة التي تهدف إلى إعادة رسم التوازن بين إسرائيل والعالم العربي تحت عنوان “السلام الإقليمي المشروط”.
لكن البيت الابيض يدرك أيضًا أنّ ما بعد الحرب أصعب من الحرب نفسها: فإعادة إعمار غزة تحتاج إلى تمويل عربي ودولي ضخم، والسلطة الفلسطينية عاجزة عن استلام زمام الأمور وحدها، بينما إسرائيل ترفض عودة حماس كسلطة أمر واقع. لذلك، تتجه الأنظار نحو صيغة “الإدارة المشتركة” التي قد تضم ممثلين عن الأمم المتحدة، مصر، قطر، وربما السعودية، في محاولة لتفادي عودة الفوضى.
٣- العرب: حذر وانتظار
بالنسبة للعواصم العربية الكبرى، خصوصًا القاهرة، الرياض والدوحة، فإنّ نهاية الحرب تفتح نافذة لاستعادة الدور الإقليمي العربي الذي تراجع خلال الأشهر الماضية لصالح القوى الدولية. فمصر تسعى لترسيخ موقعها كضامن للأمن على الحدود وإعادة الإعمار، أما قطر، فتريد تعزيز مكانتها كوسيط موثوق، فيما تراقب السعودية التطورات بحذر لأنها لا تريد أن تُستدرج إلى تسوية قبل اتضاح مصير السلطة الفلسطينية.
فمرحلة ما بعد الحرب ستكون اختبارًا للنفوذ وللثقة المتبادلة، وأي خلل في توزيع الأدوار قد يُعيد إشعال الصراع بأشكال مختلفة.
٤-إسرائيل: مأزق الردع والشرعية
انتهت الحرب بالنسبة لتل أبيب من دون صورة انتصار.
فالجيش الذي كان يُنظر إليه على انه الأقوى في المنطقة، وجد نفسه عاجزًا عن تحقيق الأمن الكامل رغم تدمير مئات الكيلومترات من الأنفاق وقتل الآلاف من مقاتلي حماس. أما المجتمع الإسرائيلي، فخرج من الحرب أكثر انقسامًا: بين من يرى أن الحرب كان يجب أن تنتهي مبكرًا لتجنّب الفشل، ومن يعتبر أن الحكومة خانت دماء الجنود بعدم استكمال المهمة.
في هذا السياق، سيحاول نتنياهو استثمار صفقة الأسرى لتأجيل سقوطه السياسي، رغم الضغوط الداخلية الضخمة، من المعارضة، الشارع وحتى المؤسسة العسكرية، التي تطالب بلجنة تحقيق شاملة حول إخفاقات الحرب.
٥-إيران: الانتصار بالاستمرار
تنظر إيران إلى نهاية الحرب العسكرية بوصفها بداية مرحلة الاستثمار السياسي في الصمود.
فرغم الخسائر الكبيرة التي لحقت بحماس، فإنّ استمرارها ككيان سياسي بعد حرب مدمّرة يشكّل إنجازًا للمحور بأكمله. فطهران، التي تجنّبت الدخول المباشر في الحرب، حافظت على معادلة الدعم غير المباشر عبر حزب الله في لبنان والحوثيين في البحر الأحمر، ما جعلها تحقّق توازنًا استراتيجيًا بين الردع وعدم التصعيد.
الرسالة الإيرانية إلى واشنطن وتل أبيب واضحة: إسقاط حماس مستحيل، وإضعافها لا يعني نهاية المقاومة. ومع استمرار التوتر في الضفة الغربية والحدود اللبنانية، يبدو أن طهران ستستخدم “الهدوء الغزّي” كفرصة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية وتثبيت حضورها في أي مفاوضات لاحقة حول مستقبل الشرق الأوسط.
٦- غزة: من سيحكم؟
المرحلة الأصعب بدأت الآن: من سيحكم غزة؟
تسليم الأسرى أنهى الذريعة العسكرية، لكنه فتح معركة الإدارة السياسية. فإسرائيل ترفض أي وجود لحماس في الحكم، بينما السلطة الفلسطينية لا تمتلك القدرة ولا الشعبية الكافية لتسلّم القطاع. هنا يبرز طرح جديد قيد النقاش في أروقة الدبلوماسية الغربية: “مجلس إدارة مؤقت لغزة، تشارك فيه الأمم المتحدة ودول عربية بغطاء أميركي – أوروبي، يكون هدفه إعادة الإعمار وضبط الأمن ريثما تتبلور صيغة سياسية نهائية.
طرح يواجه اعتراضًا من محور المقاومة الذي يرى فيه محاولة لفرض وصاية دولية جديدة على غزة. لذلك، يُتوقع أن تستمر المواجهة ولكن بوسائل سياسية واقتصادية وإعلامية بدل الصواريخ.
٧- مؤشرات عملية يجب مراقبتها:
اذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ النزاع انتهى (أو دخل مرحلة ما بعد الحرب المستقرة)، يجب تحقق مجموعة مؤشرات متزامنة وليس مؤشرًا واحدًا، لاثبات ذلك، اهمها:
أ- صمود وقف إطلاق النار لمدة طويلة دون خروقات كبيرة.
ب- انسحاب الجيش الاسرائيلي وتثبيت خطوط جديدة متفق عليها، وليس سحبًا تكتيكيًا للوحدات فحسب.
ج- آليات دولية/إقليمية رقابية (مراقبون، بعثة أممية، أو لجنة مشتركة) لمراقبة التنفيذ وضمان تسليم المساعدات والاحتياجات.
د- ترتيبات أمنية داخلية في غزة (خطة لتعطيل الأنفاق والأسلحة الثقيلة أو دمج جهات في هيكل أمني منضبط) أو بدائل تضمن عدم عودة القتال.
ه- خطوات سياسية واضحة: جدول زمني لإعادة الإعمار، تسوية إدارية لحكم مؤقت، إجراء انتخابات/آليات إدارة.
فإذا ما تشكّلت هذه المؤشرات مجتمعة واستمرّت لفترة طويلة بلا خروقات، حينها يمكن الحديث عن “نهاية الحرب” بالمعنى العملي.
٨- سيناريوهات محتملة:
أ- سيناريو التثبيت النسبي (أخفّها): أسرى يُسلّمون، هدنة طويلة الأمد مستمرة بضمانات إقليمية ودولية، تدخل مساعدات ضخمة، وترتيبات مؤقتة للحكم، لكن بقاء عناصر ميدانية وقيادات حماس/جماعات أخرى داخل غزة قد يجعل التهديد قائماً.
ب- سيناريو الهشاشة والعودة: إطلاق سراح الأسرى لكن دون أتفاق على تفكيك البنى العسكرية أو ضمانات طويلة، ما يؤدي إلى خروقات متقطعة وتصعيدات محدودة قد تتصاعد.
ج- سيناريو سياسي شامل (الأفضل لكن الأكثر صعوبة): اتفاق أوسع يشمل إدارة مؤقتة، خطة إعادة إعمار دولية، وتفكيك تدريجي للبنى العسكرية أو دمجها في آليات أمنية، يتطلّب وقتاً وإرادة دولية وإقليمية كبيرة.
٩- التقييم الإستراتيجي:
تحرير الأسرى خطوة ضرورية لتخفيف الضغوط الإنسانية والسياسية هائلة على إسرائيل وعلى العائلات، وتفتح نافذة سياسية لتجميد القتال، الا انها تبقى غير كافية بحد ذاتها لإنهاء الحرب نهائياً، والتي لا تنتهي الا عندما تُحلّ الأسباب البنيوية والجيوبوليتية والطابع العسكري للنزاع، وهذا يتطلب ترتيبات أمنية وسياسية وإقليمية أعمق.
المخاطر قائمة: عدم الاتفاق على آليات تنفيذية لحماية الهدنة أو تفكيك البنى العسكرية سيعني أن أي هدنة ستكون هشة ولفترة مؤقتة فقط.





