
خاص – بيروت بوست
أتت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت في مرحلة دقيقة من التحوّلات الإقليمية والدولية، وفي لحظة مفصلية تمرّ بها العلاقات اللبنانية – السورية، بعد سنوات طويلة من الفتور السياسي، والتباعد الدبلوماسي، والتشابك الميداني غير المنظّم على مستوى الحدود، والملفات الأمنية والاقتصادية واللاجئين.
الزيارة، التي هي الأولى من نوعها، بعد سيطرة النظام الجديد على الحكم، لا يمكن قراءتها، من زاوية المجاملة البروتوكولية أو التواصل الدبلوماسي، بل يجب النظر إليها في إطار مشروع سياسي واستراتيجي متكامل تسعى دمشق من خلاله إلى إعادة تموضعها في محيطها العربي، وترميم علاقتها مع بيروت بما يخدم مصالحها الداخلية والخارجية، فيما تحاول الدولة اللبنانية بدورها استثمار اللحظة لتخفيف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الهائلة الناتجة عن تداخل الملفات بين البلدين.
فمنذ الأزمة السورية عام 2011، دخلت العلاقة على خط بيروت – دمشق في حالة من التباين المعقّد:
انقسام لبنان الرسمي، من جهة، بين من يرى ضرورة التنسيق مع النظام السوري كأمر واقع لحماية مصالح لبنان الحيوية، وبين من اعتبر أي تواصل سياسي أو أمني مع دمشق بمثابة تطبيع غير مقبول مع سلطة فقدت شرعيتها العربية والدولية في تلك المرحلة، من جهة أخرى.
انقسام ترك الملفات المشتركة في حالة جمود وتآكل مؤسساتي، خصوصاً قضايا اللاجئين السوريين، التهريب عبر الحدود، العمالة السورية، وغياب التمثيل الدبلوماسي الفاعل.
لكن التبدلات الإقليمية خلال الاشهر الاخيرة، من التقارب العربي مع دمشق، إلى إعادة فتح السفارات، مروراً بـ تغيّر الموقف الغربي نحو “احتواء” النظام السوري بدل عزله، مهّدت لعودة الحراك السياسي السوري على خط بيروت. ومع دخول لبنان زمن “حصر السلاح”، واشتداد الضغط الداخلي حول ملف اللاجئين والتهريب، وجدت دمشق اللحظة مناسبة لإرسال رسالة مزدوجة:
– رسالة انفتاح محسوبة، تؤكد أن سوريا باتت مستعدة للتعاون ضمن أطر رسمية جديدة ( تجميد عمل المجلس الاعلى).
– رسالة قوة واستمرارية، تُذكّر بأن نفوذها في لبنان لم يتراجع بالكامل، بل يمكن أن يُعاد تفعيله ضمن مقاربة جديدة أكثر براغماتية وأقل صدامية، وهو ما كشفه الرئيس السوري في اكثر من مناسبة.
في المقابل، تنظر بيروت إلى زيارة الشيباني بوصفها نافذة إنقاذ مشروعة، فالحكومة اللبنانية الغارقة في أزمة اقتصادية خانقة ترى في التعاون مع دمشق فرصة عملية لإعادة ترتيب ملف اللاجئين السوريين، وتخفيف النزف المالي والاجتماعي الناتج عنه، وضبط الحدود في وجه شبكات التهريب، وتأمين خطوط دعم للطاقة والتجارة البرّية عبر سوريا نحو الدول العربية.
كما انها تعتبر الزيارة مناسبة لإعادة إحياء القنوات الدبلوماسية الرسمية، بعد أن بقي التواصل طوال السنوات الماضية محصوراً بمستويات أمنية أو حزبية ضيقة.
غير أن أهمية الزيارة تتجاوز بعدها الثنائي لتطال المعادلات الإقليمية الكبرى:
– واشنطن تراقب مدى انفتاح بيروت على دمشق خوفاً من أن يشكل ذلك خرقاً لمسار “العقوبات” الغربية على لبنان.
– طهران وحزب الله تراقب تفاصيل التقارب لترى إن كان يُضعف أم يعزّز موقعهما في المعادلة اللبنانية.
– العواصم العربية، ولا سيما القاهرة، الدوحة، الرياض، فترى في إعادة تنظيم العلاقة بين بيروت ودمشق، اختباراً لقدرة سوريا على الالتزام بحدود جديدة من السلوك السياسي الإقليمي.
من هنا، فإن زيارة الشيباني ليست مجرد خطوة بروتوكولية، بل حدث استراتيجي يعيد رسم خط التماس بين السياسة والواقعية في العلاقة بين البلدين. إنها محاولة من دمشق لتثبيت شرعيتها الإقليمية من بوابة لبنان، ومحاولة من بيروت لإعادة تنظيم مصالحها مع جارتها الأكبر، بما يخدم استقرارها الداخلي، دون الوقوع مجدداً في فخّ التبعية أو العزلة.
زيارة تختبر قدرة الطرفين على الانتقال من منطق الشك والقطيعة، إلى منطق المصالح المنظمة، وهي اختبار حقيقي لمدى نضج “السلطتين الجديدتين”، في تحويل الإرث التاريخي المليء بالتجاذبات إلى شراكة عقلانية تحفظ السيادة وتخدم الأمن والاستقرار المتبادل.
١- قراءة لأهداف دمشق:
أ- إعادة بناء شرعية دبلوماسية: تحوّل دمشق من عزلة إلى محاولة استعادة شرعيتها مع دول الجوار وشركاء دوليين، واستعادة قنوات رسمية تسمح بالتعامل مع ملفات ثنائية بدون وساطات متعددة.
ب- استعادة أدوات إدارة ملف اللاجئين: بهدف تقديم سردية “عودة منظمة” تستلزم تمويلًا وإعادة إعمارًا يمكن أن يخفف الضغط الداخلي ويستخدم كرافعة تفاوضية مع دول مانحة.
ج- ضبط الحدود ومكافحة التهريب: خفض شبكات التهريب التي تؤثر على الاقتصاد والأمن اللبناني وتُستخدم أحيانًا كورقة نفوذ من أطراف محلية وإقليمية.
د- تحويل العلاقة إلى قنوات مؤسسية: تعيين سفير، لجان فنية، اتفاقيات قانونية بدل الإطار الذي تعمّده الطرفان لسنوات.
٢- قراءة لأهداف لبنان:
أ- الاستقرار الأمني والحدودي: تهدئة نقاط الاحتكاك الحدودي، تقليل عمليات التهريب، ومنع حوادث قد تتطور إلى توترات أمنية واسعة.
ب- التخفيف الاقتصادي والاجتماعي: معالجة ضغط اللاجئين الذي يثقل الموازنات المحلية والخدمات العامة، ومحاولة ربط أي إعادة للنازحين بضمانات دولية وتمويل لإعادة الإعمار.
ج- استعادة آليات دبلوماسية عملية: فتح قنوات قانونية للتعامل مع ملفات الموقوفين، الأملاك، والتعاون القضائي بدلاً من الاعتماد على حلول أمنية ضيقة
٣- أثر الزيارة على الملفات الرئيسية:
أ. ملف اللاجئين:
١- إمكانات: إعلان نوايا لعودة «منظمة» سيعطي حلاً سياسياً لبعض الضغوط اللبنانية إذا رافقته خطط تمويل دولية ومراقبة أممية.
٢- مخاطر: أي عملية لا تتبع معايير الطوعية والحماية ستواجه رفض المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية وقد تثير اضطرابات داخلية في لبنان. لذلك ربط التنفيذ بمفوضية اللاجئين أمر حاسم.
ب. قضايا الحدود والتهريب:
أ-فرصة: اتفاق تقني لمراقبة المعابر وتبادل استخباراتي محدد يمكن أن يحدّ من شبكات التهريب، خصوصاً عبر معابر غير رسمية.
ب- محدودية التطبيق: وجود فصائل أو شبكات مستفيدة محليًا يجعل التنفيذ هشًا ويستدعي خطة متكاملة تشمل الضبط الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة.
ج. الأمن الإقليمي وموقع حزب الله:
أي تفاهم بين بيروت – دمشق سيمرّ عبر حسابات حزب الله، الذي يملك القدرة على تقبل خطوات تؤمّن الاستقرار أو الاعتراض عليها إن لامست مصالحه العسكرية أو اللوجستية، وهو توازن مطلوب لتفادي اصطدام داخلي.
هنا يجدر التوقف عند نقطتين:
أ- وجود اتصالات مباشرة بين حارة حريك ودمشق، وانقسام كبير في وجهات النظر داخل الحزب حول هذا الملف.
ب- “اصرار” الشيباني، بايعاز خارجي، على ما يبدو، على استثناء عين التينة من زيارته، وهو ما سيترك بالتاكيد تداعياته على العلاقة بين البلدين.
د. البعد الاقتصادي والدبلوماسي:
تعاون تقني وفتح قنوات قد يمهّد لعودة مشاريع تراعي البنى التحتية الحدودية والتجارة، فدمشق تحتاج لسبب اقتصادي لاستقدام دعم خارجي، ولبنان يحتاج لفرص لتخفيف أزمته. هنا تاتي زيارة الشيباني لتفتح نافذة للتمويل المشروط.
٤- سيناريوهات محتملة:
أ- السيناريو الأكثر احتمالاً: تفاهمات تقنية وإعلانات
توقيع مذكرات تفاهم فنية، لجان حدودية، آليات لموضوع اللاجئين، تعيين ممثلين دبلوماسيين لاحقًا، وإعلانات إعلامية كبيرة. التطبيق عمليًا سيكون مرحليًا وتحت رقابة دولية.
ب- السيناريو المتوسط: مشاريع صغيرة لإعادة توطين طوعية في مناطق محدودة، اتفاقات أمنية لتبادل معلومات حول معابر التهريب، وتداخل سياسي داخلي قد يؤخّر التنفيذ.
ج- السيناريو الأقل احتمالاً: استغلال الاتفاقات كورقة داخلية يؤدي إلى احتجاجات، أو رفض فصائل مسلحة للتطبيق، ما يعيد العلاقات إلى مربع التوتر ويؤدي إلى عودة أزمة ثقة بين الطرفين.
٥- مؤشرات للمراقبة لقياس نجاح التفاهمات:
أ- توقيع بروتوكول مشترك للحدود.
ب- تفعيل عودة النازحين (مع جدول زمني واضح).
ج- انخافض عدد الحوادث الحدودية وعمليات التهريب.
د- اتفاق على تعيين ممثلين دبلوماسيين/قنصليين متفق عليهم.





