خاصسياسة

تقدير موقف | بين المختارة والجاهلية …. بعبدا ترسم التوازن الدرزي

خاص – بيروت بوست

في لحظة سياسية دقيقة يعيشها لبنان على وقع التجاذبات الداخلية والضبابية الإقليمية، خطف قصر بعبدا الأضواء مجدداً من خلال حركته السياسية المتسارعة. فبعد اللقاء اللافت الذي جمع رئيس الجمهورية برئيس الحزب  التقدمي الاشتراكي السابق، وليد جنبلاط، ونجله تيمور، والذي عُدّ مؤشراً على انفتاح جديد بين الرئاسة والمختارة، جاء استقبال الوزير السابق، وئام وهاب بعد أقل من أربعٍ وعشرين ساعة ليضيف بُعداً جديداً إلى المشهد.

تسلسل زمني لم يكن صدفة، بل خطوة محسوبة بعناية، تعكس استراتيجية رئاسية، قوامها إعادة التوازن إلى الخريطة السياسية الدرزية، وإحياء الدور الجامع لبعبدا، في لحظة تتكاثر فيها الاصطفافات وتضيق فيها مساحات الحوار. فبين “بيك المختارة” الذي يمثّل المدرسة التاريخية للدروز في العمل السياسي، و”شيخ الجاهلية” الذي يجسّد الصوت المعارض المتصل بقضايا المنطقة، أراد عون أن يبعث برسالة واضحة:
بعبدا ليست ساحة لطرف، بل مرجعية وطنية مفتوحة على الجميع، وقادرة على مدّ الجسور بين المتناقضات حين تنغلق خطوط التواصل بين القوى.

الا ان هذه اللقاءات المتعاقبة، تاتي في سياق تحرّك رئاسي أوسع يعيد تموضع القصر الجمهوري في قلب المشهد. فالتوقيت، المتزامن مع تصاعد النقاش حول المفاوضات الإقليمية وموقع لبنان منها، يشي بأنّ رئيس الجمهورية يسعى إلى ترميم شبكة التوازنات الداخلية قبل دخول البلاد في مرحلة جديدة من التسويات الكبرى، حيث سيكون للجبل،بطوائفه وتحالفاته، دور محوري في رسم الخريطة المقبلة.

١- تحليل أبعاد اللقاءين:

من الواضح أنّ بعبدا  تسعى، من خلال هذا التوازي في الاستقبالات، إلى إيصال أكثر من رسالة، ابرزها:

– الاولى، داخلية – درزية بامتياز، تتمثل في رغبة رئيس الجمهورية في الحفاظ على توازن داخل البيت الجبلي، بحيث لا يبدو وكأنه ينحاز إلى زعيمٍ دون آخر، خصوصاً بعد اللقاء المطوّل مع جنبلاط الأب والابن الذي فُسّر سياسياً على أنه عودة حرارة التواصل بين المختارة وبعبدا بعد فترة من “البرودة”. اما استقبال وهاب، وهو أحد أبرز خصوم جنبلاط في الساحة الدرزية، جاء بمثابة تصحيحٍ للتوازن، ورسالة مفادها أن بعبدا مفتوحة للجميع، ولا تُدار بمنطق الاصطفاف.

– الثانية، سياسية – وطنية الطابع، تهدف إلى تأكيد أن الرئاسة تعتمد مقاربة شاملة تجاه مختلف القوى، وأنها تتحضّر لتفعيل دورها السياسي في المرحلة المقبلة، سواء في مقاربة الملف الحكومي أو الأمني، أو في بلورة الموقف اللبناني الموحد من الاستحقاقات الإقليمية، لا سيما ما يتعلق بمفاوضات الحدود أو إعادة ترتيب العلاقات الداخلية في ضوء التطورات الإقليمية.

٢- ما وراء التوقيت:

حمل توقيت اللقاءين دلالات دقيقة. فزيارة جنبلاط جاءت في سياق إعادة التموضع السياسي الذي يسلكه منذ فترة، ومحاولته استكشاف نوايا رئيس الجمهورية ودوره المقبل في المرحلة الانتقالية. أما استقبال وهاب بعده مباشرة، فقد عُدّ بمثابة رسالة مزدوجة إلى المختارة وإلى دمشق على حدّ سواء:

– إلى جنبلاط، بأنّ بعبدا لا تضع كل بيضها في سلّة واحدة.
– إلى دمشق، بأنّ الرئيس اللبناني مستعد لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع القوى المتحالفة مع المعارضين لها، من دون أن يقطع خيوطه مع خصومهم.

٣- البعد الاستراتيجي:

من زاوية أوسع، يمكن اعتبار اللقاءين جزءاً من تحرك رئاسي أوسع نطاقاً يرمي إلى ترميم شبكة العلاقات السياسية الداخلية التي تضررت بفعل التباينات الأخيرة في مجلس الوزراء والاصطفافات الطائفية، حيث يحاول عون أن يرسم لنفسه صورة “الوسيط الجامع”، لا سيما مع اقتراب محطات مفصلية، منها داخلي مرتبط بالتضامن الحكومي والانتخابات النيابية، ومنها الخارجي، لجهة الاستعداد للتعاطي مع أي انعكاسات محتملة للتسوية الإقليمية الجارية.

٤- ردود الفعل الدرزية:

أثار تسلسل اللقاءين، داخل الطائفة الدرزية، ارتباكاً سياسياً واضحاً، خصوصاً أنّ الاستقبالين تما في ظرف متقارب جداً، ما جعل الأوساط “الجبلية” تنقسم في قراءتها لدلالات هذا الحراك.

ففي البيت السياسي الجنبلاطي، تم التعامل مع خطوة استقبال وهاب بحذرٍ محسوب. فالمختارة، التي أرادت إظهار انفتاحها على عون بعد مرحلة من الفتور، تدرك أن بعبدا لا تريد أن تبدو وكأنها تُعيد وصل ما انقطع مع “البيك” فقط، بل تسعى لإعادة التوازن إلى تمثيل الطائفة الدرزية على مستوى الرئاسة. لذلك، تجنّب جنبلاط ونجله تيمور أي تعليق مباشر، واكتفيا بإبقاء التواصل قائماً مع أجواء بعبدا، منعاً لأي توظيف سياسي معكوس.

أما في المقلب الوهابي، فقد شكّل اللقاء مع عون فرصة لإعادة إدخال وئام وهاب إلى دائرة الضوء السياسي في لحظة دقيقة. فهو يدرك أن حضوره في بعبدا، بعد جنبلاط مباشرة، يمنحه نوعاً من الاعتراف الرمزي بدوره كمكوّن سياسي موازٍ داخل الساحة الدرزية، لا سيما بعد فترة من التراجع النسبي في نشاطه السياسي والإعلامي، وهو ما دفع بوهاب، في قراءته الخاصة، الى محاولة إبراز اللقاء على أنه دليل على “حياد الرئاسة” وتأكيد على أن بعبدا ليست حكراً على فريق دون آخر، بل هي مرجعية وطنية تحتضن الجميع.

أما على المستوى الشعبي، فقد انقسمت القواعد الدرزية بين من رأى في الخطوتين إشارة إيجابية إلى انفتاح رئاسي يعيد الاعتبار للطائفة ودورها في المعادلة الوطنية، وبين من اعتبر أن التوقيت قد يُستخدم في سياق توازنات سياسية ظرفية مرتبطة بالملفات الحكومية والانتخابية المقبلة، أكثر منه تعبيراً عن مسار مصالحة حقيقية داخل البيت الدرزي.

٥- خلاصة المشهد الدرزي:
يمكن القول إن بعبدا نجحت مؤقتاً في تحقيق توازن رمزي بين قطبي الجبل، لكنها لم تفتح بعد الباب أمام مصالحة حقيقية أو إعادة تنظيم العلاقات السياسية داخل الطائفة.
غير أنّ هذا التحرك، وإن بدا شكلياً للبعض، قد يكون الخطوة الأولى في استراتيجية رئاسية أوسع تهدف إلى تجميع القوى المحلية استعداداً لمرحلة تفاوضية إقليمية دقيقة، حيث يسعى كل طرف لبناء موقعه التفاوضي من الداخل قبل أن تبدأ المعادلات الكبرى بالتشكل.

فبين زيارة جنبلاط وزيارة وهاب، تبدو بعبدا وكأنها استعادت موقعها كمنصة تواصل بين المتناقضات.
وإذا كان اللقاءان قد حملا طابعاً رمزياً أكثر منه عملياً، فإنهما في السياسة اللبنانية يشكلان مؤشراً إلى محاولة إعادة بناء التوازنات الداخلية قبل الدخول في مرحلة تفاوضية دقيقة على مستوى الداخل والخارج.

بذلك، يحاول عون ان يظهر نفسه، كمن يريد أن يبعث برسالة واضحة: أن العهد لم ينكفئ، بل يعيد ترتيب أوراقه بعناية استعداداً للجولة المقبلة من الصراع السياسي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى