
خاص – بيروت بوست
أتى بيان كتلة الوفاء للمقاومة، أمس، في لحظة سياسية وأمنية شديدة الحساسية، حيث يتقاطع النقاش الداخلي حول “الميكانيزم” مع مشهد إقليمي متوتر، وحسابات دولية ضاغطة، وواقع لبناني هشّ على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
فالبيان لم يكتف بالمواقف، بل قدّم رؤية صدامية – دفاعية واضحة تُحاول من خلالها الكتلة رسم خطوط حمر للسلطة اللبنانية في إدارة ملف المواجهة على الحدود الجنوبية، وتحديداً في ما يخص آليات وقف الأعمال العدائية.
فيما يلي تقييم استراتيجي لأبرز دلالات البيان:
أولاً: رسالة تحذير مباشرة للسلطة اللبنانية:
الهجوم على قرار تسمية ممثل مدني في لجنة الميكانيزم يحمل أبعاداً تتجاوز التقنية:
– التوصيف السياسي للسقطة، اذ تعتبر الكتلة أنّ السلطة ارتكبت “تنازلاً مجانياً”، أي أنها قدمت خطوة رمزية تُقرأ إسرائيليًا ودوليًا كاستعداد لتهدئة مقابل لا شيء. هذا التوصيف يهدف إلى سحب شرعية الخطوة ووضعها في خانة الاستجابة للضغوط الأميركية.
– الهدف الاستراتيجي للكتلة، وضع السلطة في موقع الاتهام بأنها تتصرف بمعزل عن “المعادلة الردعية” التي فرضها حزب الله منذ 8 تشرين الأول، وبالتالي القول إن أي ليونة حكومية قد تُفهم كإضعاف لورقة المقاومة في المفاوضات حول مستقبل الجنوب.
– الدعوة لفرض شروط مسبقة: فالكتلة أعادت التأكيد على قاعدة “التزام العدو أولاً”، وهي رسائل موجهة لواشنطن، لا لبيروت فحسب، بأن أي تسوية حول الحدود أو آلية المراقبة لن تمر إلا وفق شروط المقاومة.
ثانياً: مواجهة داخلية مع “الخطاب التصالحي” تجاه إسرائيل:
إدانة “ارتفاع منسوب اللغة التصالحية” يعكس:
– قلقاً من صنع مناخ سياسي جديد، لتليين الموقف اللبناني تمهيداً لتسوية واسعة.
– اتهاماً مبطناً لأطراف محلية، بمحاولة تعديل صورة العدو وبناء سردية سياسية تتيح لاحقاً نقاشات حول التطبيع أو تفاوض مباشر.
– استنفاراً للشارع المؤيد للمقاومة، عبر تصوير الأمر كخطر على «الهوية الوطنية» لا مجرد اختلاف سياسي.
– تحميل المؤسسات الرقابية والإعلامية مسؤولية المواجهة، ما يعكس رغبة واضحة في كبح أي هوامش خطابية تشكّل إرباكاً لجمهور المقاومة.
بهذا، يتخطى البيان إطار النقد السياسي إلى محاولة ضبط المجال الإعلامي والسياسي ضمن حدود “الإجماع الوطني التقليدي حول العداء لإسرائيل”.
ثالثاً: خطاب قيم عالمي – لكن بوجه سياسي مباشر:
فاستثمار الذكرى العالمية لحقوق الإنسان يهدف إلى:
– ربط انتهاكات إسرائيل في غزة ولبنان بعجز النظام الدولي، ما يُعيد تموضع حزب الله كقوة “مقاومة عالمية” لا محلية فقط.
– حشد الرأي العام العالمي والنخب، كامتداد لحجم التظاهرات الغربية ضد حرب غزة، مما يساعد الحزب على تثبيت شرعية سلوكه العسكري والسياسي.
– تعميق سردية الازدواجية الغربية، في الخطاب الحقوقي، وبالتالي تعزيز الخطاب الإيديولوجي للحزب أمام جمهوره المحلي.
رابعاً: رسائل اقتصادية – مالية تُجسّد صورة الحزب “الراعي للناس”:
فإشادة الكتلة بعمل لجنة المال والموازنة ومطالبتها بإعادة الإعمار وبتصحيح الرواتب ليست نقاطاً تقنية، بل رسائل سياسية:
– محاولة تقوية صورتها كقوة تمثّل “حقوق الناس” في مواجهة سلطة تُتهم بأنها تقدم تنازلات سياسية ولا تقدم حلولاً اقتصادية.
– ربط ملف الجنوب مباشرة بالدولة، أي التأكيد أنّ الحزب لن يسمح بأن تتحول إعادة الإعمار إلى ملف دولي أو منصة لضغوط سياسية.
– مخاطبة الموظفين والأساتذة، وهم كتلة اجتماعية واسعة تملك تأثيراً انتخابياً، عبر دعم مطالبهم المحقة.
– التلميح إلى مسؤولية الحكومة في عدم تأخير الملفات الاجتماعية ربطاً بالأزمة الاقتصادية.
بهذا، يضع الحزب نفسه في موقع الطرف الذي يُناصر الطبقات المتضررة، بديلاً عن الدولة.
خامساً: الإطار الدولي – رسالة إلى واشنطن:
فإدانة “البلطجة الأميركية” ليست جملة إنشائية، بل تأتي ضمن استراتيجية الحزب لإظهار:
–أن الأزمة في الجنوب ليست لبنانية – إسرائيلية فقط، بل أميركية – مقاومة.
– تحميل واشنطن كل تبعات استمرار الحرب، وبالتالي خلق معادلة ضغط موازية للضغوط الأميركية.
– التأكيد على أنّ أي تفاوض حول الحدود سيتم من داخل معادلة الردع، وليس تحت سقف الإملاءات الأميركية.
هذه اللغة تُستخدم عادة عندما يشعر الحزب بأن ضغوط الخارج على بيروت تتصاعد في خلفية نقاشات الميكانيزم والتسوية.
خلاصة التقدير الاستراتيجي
البيان ليس بياناً دورياً للكتلة، بل تحرك سياسي استباقي يهدف إلى:
– فرملة محاولة نقل إدارة النزاع في الجنوب من منطق المواجهة إلى منطق التسوية.
– تطويق أي مسار حكومي أو سياسي قد يؤدي إلى تقديم تنازلات في ملف المفاوضات.
– إعادة ضبط الخطاب العام تجاه إسرائيل ومنع نشوء “بيئة داخلية” تُسهّل للمجتمع الدولي فرض حلول من خارج معادلة المقاومة.
– تأكيد أنّ الحزب حاضر في كل الملفات، من الأمن إلى المال العام، وأنه اللاعب الأكثر تأثيراً في رسم حدود المرحلة.
بكلمات أوضح، يعلن البيان أنّ حزب الله لن يسمح بتحويل نقاش الميكانيزم إلى حوار سياسي لصالح واشنطن وتل أبيب، ولن يقبل بأي تغيير في قواعد الاشتباك ما لم يلتزم العدو أولاً بوقف عدوانه.
إنه بيان ضبط مسار، تحذير، ورسم خطوط حمراء…. قبل الدخول في أي تفاوض دولي واسع حول مستقبل الجنوب.





