
خاص – بيروت بوست
في الكواليس الإقليمية، تُنسج بصمت خيوط دقيقة بين خطوط النار وحدود الخرائط. فمن بيروت إلى دمشق، مروراً بتل أبيب وواشنطن، تتكثف الاتصالات حول اتفاقات أمنية متفرقة، تبدو في ظاهرها منفصلة، لكنها في الجوهر تنتمي إلى سياق استراتيجي واحد: إعادة ترتيب أمن الجبهة الشمالية لإسرائيل من البحر إلى الجولان، في مفهومٍ عكسي لوحدة الجبهتين، عبر تفاهمات متفاوتة في الشكل، متطابقة في المضمون.
هندسة “السلام البارد”
فبين الاتفاق الأمني في غزة بعد الحرب، وما تسعى إليه إسرائيل في لبنان عبر وساطة وضغوط أميركية متعددة، وما تعمل عليه ميدانياً في سوريا، تبرز خريطة جديدة للأمن الإقليمي.
خريطة تقوم على تثبيت حدود سلام بارد دون توقيع معاهدات سياسية، وضمان هدوء طويل المدى على الجبهات التي تعتبرها تل أبيب الأخطر على أمنها القومي.
نقطة التحوّل
الحديث المتزايد عن اتفاق أمني لبناني – إسرائيلي يشكل نقطة تحوّل حساسة، لأنه يمسّ آخر خطوط النار المفتوحة رسمياً مع إسرائيل، ويضع لبنان أمام اختبار معقّد بين واقعه الداخلي المأزوم وضغوط الخارج.
فالاتفاق، إن صحّت التسريبات، لا يقتصر على ترتيبات حدودية أو وقفٍ للنار، بل يفتح الباب أمام منظومة مراقبة، تبادل معلومات، وربما إدارة مشتركة لمناطق تماس حساسة في معادلة الردع، بحسب مصادر أميركية مطّلعة.
بصمة واشنطن
المصادر نفسها تؤكد أنّ واشنطن تتحرك وفق خطة واحدة في لبنان وسوريا وغزة، هدفها تحويل خطوط النار إلى خطوط ضبط.
المنطق بسيط: تحجيم قدرات “المقاومة” وتحييد الجبهات، مقابل ضمانات أمنية وإغراءات اقتصادية تشرف عليها الولايات المتحدة أو أطراف إقليمية.
بهذه الطريقة، تتجه إسرائيل إلى ما تسميه “التطبيع الأمني بلا تطبيع سياسي”، أي تأمين الهدوء الاستراتيجي دون المرور عبر المعاهدات العلنية التي يصعب تمريرها شعبياً في المنطقة.
️الحزام الشمالي الجديد
الربط بين ما يجري في لبنان، وما حصل في غزة، وما يُحضّر في سوريا ليس صدفة. فإسرائيل، بدعم أميركي مباشر، تعمل على رسم حزام تهدئة شمالي يمتد من المتوسط إلى التنف، لإغلاق كل المنافذ التي يمكن أن تستخدمها طهران أو حلفاؤها لفتح جبهات ضدها.
في هذا المخطط، لبنان هو الحلقة الأخيرة والأكثر تعقيداً، لأن أي تفاهم لن يمرّ دون أخذ موقف حزب الله في الحسبان.
غرفة “كريات دان”
بحسب المصادر، المشروع الإسرائيلي – الأميركي جزء من عملية إعادة هندسة التوازن الإقليمي، حيث تمسك واشنطن فعلياً بخيوط اللعبة بين إسرائيل وخصومها عبر تفاهمات ترعاها وتديرها من غرفة العمليات المستحدثة في “كريات دان”، التي ستكون الأكبر في المنطقة، وتشرف على الاتفاقات مع لبنان وسوريا وغزة ومصر والأردن.
خرائط وحدود جديدة
الاجتماعات العسكرية الأميركية – الإسرائيلية بلغت مراحلها الأخيرة لرسم خرائط وحدود جديدة تعكس المفهوم الإسرائيلي للأمن الطبيعي مع دول الطوق.
وتكشف التسريبات عن ثلاث مناطق عازلة متداخلة في الجنوب اللبناني:
1. منطقة بعمق 7 كلم شمال الخط الأزرق، خالية من السكان، تعمل واشنطن على إنشاء منطقة صناعية فيها.
2. منطقة ثانية تمتد حتى جنوب نهر الليطاني، منزوعة السلاح بالكامل، تُطهّر من الصواريخ القصيرة والدروع.
3. منطقة ثالثة أوسع من نهر الليطاني حتى نهر الأولي، تُقيد فيها صلاحيات الجيش اللبناني، ليُصبح نهر الأولي حاجزاً طبيعياً ضمن المفهوم الأمني الجديد لتل أبيب.
التهدئة مقابل السيطرة
ما يجمع بين اتفاق غزة والترتيب السوري والمسعى اللبناني هو منطق واحد: “التهدئة مقابل السيطرة”، أي منح إسرائيل أمناً طويل الأمد مقابل إبقاء الأطراف الأخرى في دائرة الاحتواء لا الشراكة.
لكن لبنان، بتعقيداته الطائفية والسياسية، يبقى العقدة الأصعب في المشروع، وربما الساحة التي تحدد نجاح أو فشل المخطط بأكمله.
السؤال الحاسم
هل يمكن للبنان، الذي لا يزال يحتفظ بمعادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، أن يدخل تسوية أمنية مع إسرائيل دون أن تتفجر ساحته الداخلية؟
أم أن أي اتفاق من هذا النوع سيعيد إنتاج الانقسام بين معسكرين: أحدهما يرى في التفاهم فرصة لتجنّب حرب مدمرة، والآخر يعتبره خيانة لثوابت الصراع وتهديداً للسيادة الوطنية؟





