ترسيم الحدود اللبنانية – السورية: فك اشتباك جيوسياسي

يُعد ملف ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، برّاً وبحراً، واحداً من أعقد القضايا السيادية المعلّقة بين البلدين، والممتدة منذ مرحلة الانتداب الفرنسي وصولاً إلى مرحلة ما بعد الاستقلال. فعلى مدى عقود، لم يتمّ الاتفاق رسمياً على حدود دقيقة، لا على اليابسة ولا في البحر، وهو ما جعل هذه المساحات مسرحاً للتداخل الأمني، والتهريب، والنزاعات الصامتة، والمساومات السياسية.
مع وصول الحكم الجديد الى السلطة في دمشق، عاد هذا الملف إلى الواجهة، ليس فقط بسبب الوعود التي أطلقها الرئيس السوري حول إصلاح العلاقة مع الجوار اللبناني، بل أيضاً بفعل التحولات الجيوسياسية التي تُحتّم على سوريا ولبنان إعادة ترتيب قواعد العلاقة بينهما، خصوصاً في ظل الاهتمام المتزايد بالثروات البحرية في شرق المتوسط، والحاجة الملحة لضبط الحدود البرية في سياق مكافحة التهريب وتنظيم عبور الأفراد والبضائع، وهو ما نصت شددت عليه الورقة الاميركية فيما خص الازمة اللبنانية، وتعمل عليه المملكة العربية السعودية بكل ثقلها.
ويرى الكثيرون في المرحلة الحالية، الفرصة السياسية الذهبية “لتسكير هذا الملف”، نتيجة التداخل بين السعي السوري لإعادة التموضع الإقليمي والدولي، من جهة، وحاجة لبنان الماسّة إلى حماية موارده البحرية واستعادة سيطرته على حدوده، من جهة ثانية، ما يجعل من ملف الترسيم نقطة اختبار مبكرة لنيات دمشق، ومؤشراً حاسماً على مدى الاستعداد للدخول في تسويات جادّة بعيداً عن نهج الهيمنة التاريخي، على ما ترى مصادر دبلوماسية مواكبة.
في هذا السياق، يصبح النقاش حول الترسيم أكثر من مجرد مسألة جغرافية أو تقنية، بل “مشروعاً سيادياً” يرتبط بمفاهيم الأمن الوطني، وبناء الدولة، والانخراط في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكّل بهدوء على أنقاض الأزمات المتراكمة. فترسيم الحدود البرية يُشكّل ضرورة لضبط المعابر غير الشرعية، وإنهاء الفوضى الأمنية والاقتصادية التي لطالما استُغلّت من قبل المهربين. أما الحدود البحرية، فترتبط مباشرة بمصالح استراتيجية كبرى تتعلّق بالثروات الغازية في شرق المتوسط، ما يجعل الترسيم ضرورة وطنية واقتصادية عاجلة، توازي بأهميتها أي ورقة إصلاح داخلي.
وتشير المصادر الى ان الرئيس السوري يُدرك أن أي نهضة اقتصادية لبلاده تحتاج إلى استقرار سياسي وحدودي، وأن الانفتاح على المجتمع الدولي يتطلب معالجة ملفات كانت تُعتبر محرّمة في الفترة السابقة، حيث من الواضح تعامله مع هذا الملف كخطوة استباقية لطمأنة العالم، وإثبات استعداده لاتباع آليات قانونية دولية في إدارة ملفاتها، كما أن لتنسيق مع لبنان في ملف الحدود البحرية، قد يفتح لسوريا الباب للمشاركة في مشاريع الطاقة الإقليمية، ما دامت خارطة موارد المتوسط تعيد رسم النفوذ.
وتكشف المصادر ان الكثير من العقبات والتحديات تحول دون تحقيق انجازات كبرى في الوقت الراهن، ابرزها، ان جزءاً من الأجهزة السورية لا تزال تُفضّل إبقاء الحدود سائبة كأداة نفوذ في لبنان، في المقابل، على الجانب اللبناني، ينظر فريق من اللبنانيين بريبة كبيرة، لتحركات النظام الجديد في دمشق، نظرا للتجربة الماضية والمواجهات العسكرية التي شهدتها، هذا فضلا عن ان بعض الدول قد تضع شروطاً على مسار الترسيم، خاصة إذا ارتبط بملفات أخرى كعودة اللاجئين، أو الانتشار العسكري السوري.
وكشفت المصادر، ان الجهود الاميركية والسعودية المبذولة نجحت في احداث خرق على صعيد بعض الملفات، من بينها الترسيم، ونقل مستوى التواصل بين البلدين، من العسكري الى السياسي، وهو ما سيترجم في زيارة وفد وزاري سوري رفيع الى بيروت، لبحث ملف المعتقلين بشكل اساسي، وموضوع الحدود الشرقية، بعدما اثبتت الية التنسيق الموضوعة نجاعتها في ضبط الاشكالات.
وختمت المصادر بان الملف يبقى خاضعا في النهاية للتوازنات الاقليمية والدولية، ولمدى نجاح الضغوط في تحقيق النتائج المرجوة، والاهم مدى نجاح كل من العهدين في بيروت ودمشق من تعزيز وتمتين سيطرتهم وامساكهم بالدولة، وعليه يكون الملف امام ثلاث سيناريوهات اساسية:
– ترسيم متدرج: يبدأ بملف الحدود البحرية نظراً للفرص الاقتصادية، ثم ينتقل إلى البرية لاحقاً، وهو الاكثر ترجيحا في الوقت الراهن، في حال انجز الاتفاق الروسي – الاميركي، حيث ثمة اتفاقات بين دمشق وموسكو حول التنقيب والاستثمار، عند الحدود البحرية مع لبنان، وثمة مباحثات بين الطرفين لبت مصيرها.
اما فيما خص الحدود البرية، فان المطلوب اليوم بت مسالة التهريب عبرها وضبطه، من سلاح ومخدرات وممنوعات، وهو ما نجحت السلطات السورية في تحقيقها، الا ان الترسيم بن يكون قبل حسم مسار التوازنات الداخلية اللبنانية، ومسالة حصر السلاح، على يؤكد المتابعون.
– ترسيم ضمن اتفاق أوسع: قد يُدمج ملف الترسيم ضمن صفقة سياسية شاملة بين بيروت ودمشق برعاية دولية.
– تأجيل جديد: إذا اصطدمت إرادة الشرع بجدران داخلية أو إقليمية، فقد يبقى الملف مجمّداً على حاله.
في الخلاصة يمثل ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا اليوم، أحد أبرز التحديات السيادية المعلّقة في العلاقة الثنائية، وهو ملف ظلّ رهينة الحسابات السياسية الإقليمية والتوازنات الأمنية لعقود، حيث يفتح التدخل الاميركي – السعودي نافذة جديدة، وإن كانت ضيقة حتى اللحظة، لإعادة فتح هذا الملف الشائك، في ظل مؤشرات أولية على رغبة بيروت ودمشق في تبريد التوترات والانخراط في تسويات براغماتية.
غير أنّ فرص نجاح هذا الترسيم لا تزال رهينة عدّة عوامل، ابرزها: مدى استعداد النظام السوري للتخلي عن ورقة التحكم بالحدود كورقة نفوذ، وموقف القوى اللبنانية المؤثرة الرافضة للتعامل مع دمشق الجديدة، والمناخ الإقليمي والدولي الذي سيرعى أو يعرقل هذا المسار. فالترسيم ليس مجرد اتفاق تقني، بل قرار سياسي يتطلب إرادة واضحة، وثقة متبادلة، وضمانات خارجية قد توازن المخاوف وتعزّز فرص التنفيذ.