بغداد تفتح الدفاتر أم واشنطن بدأت الضغط؟

خاص – بيروت بوست
يأتي طلب الحكومة العراقية من لبنان تسديد ديونه المستحقة في سياق معقد ومتعدد الأوجه، يعكس الوضع الاقتصادي الصعب في كلا البلدين، وطبيعة العلاقات الثنائية، والتحديات الإقليمية، خصوصا في ظل المعلومات عن ضغوط أميركية في هذا الاتجاه، كمقدمة لسلسلة خطوات لواشنطن، بعد انتهاء مهلة السماح التي اعطيت للدولة اللبنانية للالتزام ب”الشروط الدولية”.
1. السياق التاريخي للديون:
– اتفاقيات الفيول مقابل الخدمات (بعد 2021): الجزء الأكبر من الديون الحالية يتعلق باتفاقيات “الفيول مقابل الخدمات” التي بدأت في عام 2021. بموجب هذه الاتفاقيات، يزود العراق لبنان بالوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، مقابل خدمات وسلع لبنانية (طبية، سياحية، تعليمية، وغيرها).
– تراكم الديون: رغم التسهيلات العراقية، لم يتمكن لبنان من سداد الجزء الأكبر من هذه المستحقات، حيث تراكمت الديون لتتجاوز 2 مليار دولار، وربما وصلت إلى 2.7 مليار دولار مع نهاية عام 2024 وتوقيع العقود الجديدة لعام 2025.
– عدم تسديد فعلي: لبنان سدد فقط حوالي 118 مليون دولار من مستحقات الفيول حتى نهاية 2024، مما يدل على حجم الأزمة التي يعاني منها.
2. دوافع الطلب العراقي:
– الضغط الاقتصادي الداخلي: يجد العراق نفسه في مواجهة تحديات اقتصادية كبيرة، في ظل اعتماده بشكل كبير على إيرادات النفط. هذه الديون المتراكمة تمثل عبئًا على الاقتصاد العراقي الذي يسعى لتنويع مصادر إيراداته.
– الحاجة للموارد لإعادة الإعمار: العراق بحاجة ماسة للموارد المالية لإعادة إعمار المناطق المتضررة من النزاعات، وتطوير بنيته التحتية. قد يرى العراق في استعادة هذه الديون فرصة لتمويل جزء من هذه المشاريع.
– المساءلة المالية: الحكومة العراقية تتعرض لضغوط داخلية لضمان تحصيل مستحقاتها المالية وحماية أموال الدولة.
– ضمانات للعقود المستقبلية: العراق يسعى لضمان التزام لبنان في المستقبل، خاصة بعد توقيع عقود جديدة لتوريد النفط الخام التي تتطلب الدفع النقدي بالدولار.
3. الوضع اللبناني والتحديات:
– الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة: لبنان يمر بأسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، مع انهيار قيمة العملة، وشح السيولة بالعملات الأجنبية، وقيود مصرفية صارمة على الودائع. هذا يجعل تسديد الديون بالدولار أمرًا شبه مستحيل في الظروف الراهنة.
– إعادة هيكلة المصارف والفجوة المالية: لبنان يعمل على إعادة هيكلة قطاعه المصرفي، لكن هذا يتطلب معالجة الفجوة المالية الكبيرة في المصارف والدولة، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
– التردد في استخدام احتياطات مصرف لبنان: يواجه مصرف لبنان صعوبة في استخدام احتياطاته من العملات الأجنبية لتسديد الديون، حيث تعتبر هذه الاحتياطات شحيحة وحيوية لاستقرار الليرة وتأمين الاحتياجات الأساسية.
– غياب حلول شاملة: على الرغم من الحديث عن وجود مبالغ في حسابات الخزينة بالليرة اللبنانية يمكن استخدامها لسداد جزء من الدين، إلا أن ترجمة ذلك إلى دولارات يعقد المشهد، كما أن السيولة النقدية الفعلية بالدولار لا تزال محدودة.
– المخاوف من استغلال الأموال: تبرز مخاوف عراقية وداخلية لبنانية من أن تقوم الحكومة اللبنانية بشطب المبالغ من الدين دون ضمان استخدامها في الأغراض المتفق عليها (مثل إعادة الإعمار).
4. السيناريوهات المحتملة:
– المقايضة أو تحويل الديون لإعمار: الأنباء تشير إلى أن العراق يدرس خيار تحويل هذه الديون إلى مساهمة في صندوق لإعادة إعمار لبنان، خاصة بعد الأضرار الناتجة عن العدوان الإسرائيلي الأخير. هذا الخيار قد يخفف العبء على لبنان ويخدم المصالح العراقية في المدى الطويل من خلال تعزيز الاستقرار في لبنان، خيار مرفوض أميركيا أقله في الوقت الحالي).
– الدفع النقدي بالدولار: هذا السيناريو صعب للغاية على لبنان في ظل الأزمة الحالية. قد يضطر لبنان لدفع جزء صغير من المستحقات، أو البحث عن قروض إضافية (وهو أمر صعب المنال).
– تجديد الاتفاقيات بشروط جديدة: يمكن أن يتم تجديد اتفاقيات الفيول مع شروط أكثر صرامة للدفع، أو بآليات جديدة تضمن حقوق العراق (مثل الدفع المسبق).
– التعثر في السداد وتداعياته: في حال استمرار تعثر لبنان، قد يؤثر ذلك على العلاقات الثنائية، وربما يؤدي إلى توقف العراق عن تزويد لبنان بالفيول، مما سيزيد من أزمة الكهرباء الخانقة في لبنان.
5. الدور الاميركي
لا يوجد دليل معلن يشير إلى أن واشنطن تلعب دورًا مباشرًا في الطلب العراقي الحالي من لبنان بتسديد ديونه. هذا الطلب يبدو أنه مدفوع بشكل أساسي بالاحتياجات الاقتصادية للعراق، والمخاوف بشأن استدامة اتفاقية الفيول مقابل الخدمات، والرغبة في استرداد المستحقات المالية.
ومع ذلك، يمكن لواشنطن أن تؤثر بشكل غير مباشر على هذا الملف من خلال عدة جوانب:
– الضغط على لبنان للإصلاحات: الولايات المتحدة هي جهة مانحة رئيسية للبنان وتضغط باستمرار على الحكومة اللبنانية لتنفيذ إصلاحات اقتصادية ومالية شاملة. هذه الإصلاحات تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومعالجة الفجوة المالية، وتحسين الحوكمة. إذا تمكن لبنان من تحقيق هذه الإصلاحات، فإنه قد يصبح في وضع أفضل لسداد ديونه للعراق، أو على الأقل التفاوض على حلول مستدامة.
– شفافية العقود: قد تشجع الولايات المتحدة على مزيد من الشفافية في العقود الحكومية، بما في ذلك اتفاقيات الطاقة، لمنع الفساد وسوء الإدارة، وهو ما قد يساهم بشكل غير مباشر في قدرة لبنان على الوفاء بالتزاماته.
-موقف سياسي: يندرج في إطار بدء الرد الاميركي على “رفض لبنان” لورقة توم براك، فيما يخص حصرية السلاح في يد الدولة، وبالتحديد حزب الله، حيث الحديث عن ضغوط كبيرة ستمارس في هذا الاتجاه.
– العقوبات الأميركية على أفراد وكيانات لبنانية: فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على بعض الأفراد والكيانات اللبنانية المرتبطة بالفساد أو بدعم حزب الله. هذه العقوبات تهدف إلى تجفيف مصادر التمويل غير المشروعة وتحسين الشفافية المالية في لبنان.
في بعض الحالات، قد يكون هناك overlap بين هذه الكيانات والشركات المشاركة في صفقات الطاقة أو الخدمات التي كان من المفترض أن تسدد ديون العراق. هذا قد يعرقل تدفق الأموال ويؤثر على قدرة لبنان على السداد.
على سبيل المثال، أشارت تقارير إلى أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على رجال أعمال لبنانيين متورطين في فضائح وقود، مما قد يؤثر على آلية التبادل مع العراق.
باختصار، بينما لا يوجد دليل على أن الولايات المتحدة هي المحرك المباشر لطلب العراق بتسديد الديون، فإن سياستها الشاملة تجاه الإصلاح الاقتصادي، ومكافحة الفساد، واستقرار المنطقة، والعقوبات، يمكن أن تؤثر بشكل غير مباشر على ديناميكيات هذا الملف.
6. تقدير الموقف:
إن طلب الحكومة العراقية من لبنان تسديد الديون هو موقف طبيعي ومنطقي من جانب دائن يسعى لاسترداد مستحقاته، لا سيما في ظل الضغوط الاقتصادية التي يواجهها العراق. ومع ذلك، فإن قدرة لبنان على الاستجابة لهذا الطلب محدودة جدًا بسبب الأزمة المالية غير المسبوقة.
الخيار الأكثر واقعية وإيجابية للطرفين في المدى المنظور هو تحويل جزء من الديون أو كلها إلى استثمارات عراقية في لبنان، أو تخصيصها لصندوق إعادة الإعمار، مع وضع آليات رقابة صارمة لضمان وصول هذه الأموال إلى مستحقيها الفعليين.
هذا الحل سيعكس التضامن الإقليمي، ويخفف العبء على لبنان، ويضمن للعراق استغلال أمواله بشكل يخدم مصالحه الاستراتيجية في المنطقة.
أي محاولة للضغط على لبنان لدفع المبلغ نقدًا بالدولار قد تكون غير مجدية وتزيد من تعقيد الأزمة اللبنانية دون أن تحقق للعراق استردادًا فوريًا وكاملًا لديونه.
الحوار والتنسيق بين الحكومتين لإيجاد حلول مبتكرة ومستدامة هو السبيل الأمثل لمعالجة هذا الملف.





