خاصأمن وقضاءإقليميدوليسياسةنزاعات وصراعات

براك وتحذير الفرصة الاخيرة: اوقفوا غشكم

خاص – بيروت بوست

في خضمّ حالة الغليان السياسي والأمني التي يعيشها لبنان، جاء تصريح المبعوث الأميركي توم براك على منصة “إكس” ليعيد خلط الأوراق اللبنانية والإقليمية على حدّ سواء. فالرجل، المعروف بصلاته الواسعة في دوائر القرار داخل واشنطن، وصاحب العلاقات المتشعّبة داخل البنتاغون ومجلس الأمن القومي في البيت الابيض، اختار توقيتاً شديد الحساسية ليطلق تحذيراً غير مسبوق موجهاً إلى بيروت، مفاده أنّ “الوقت ينفد أمام الدولة اللبنانية لإثبات قدرتها على فرض سيادتها الكاملة وضبط السلاح خارج مؤسساتها الرسمية”، في إشارة مباشرة إلى سلاح “حزب الله”، محذّراً من أن “تلكؤ الحكومة اللبنانية” قد يفتح الباب أمام تحرك إسرائيلي أحادي بذريعة حماية أمنها القومي.

فالتصريح الذي جاء في سلسلة تغريدات متتابعة لم يكن عادياً في مضمونه ولا في دلالاته. فهو المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤول أميركي رفيع بهذا القدر من الوضوح والحدة عن احتمالية تدخّل عسكري إسرائيلي واسع في حال فشل لبنان في احتواء ملف السلاح غير الشرعي. والأهم، أنّ براك لم يكتفِ بالتحذير، بل كشف أنّ “الولايات المتحدة كانت قد طرحت على بيروت مبادرة سياسية لتحويل سلاح حزب الله إلى إطار سياسي منظّم”، غير أنّ الحكومة اللبنانية رفضت العرض بسبب انقسامات داخلية وضغوط من أطراف إقليمية.

غير ان ما يجعل هذا التصريح بالغ الخطورة هو أنه يندرج ضمن سياق تصعيدي أميركي متدرّج تجاه لبنان، خلافا “للبلف” الذي يمارسه اركان العهد بحق الشعب اللبناني، يتزامن مع تصاعد المناورات الإسرائيلية على الحدود الشمالية ومع تزايد الإشارات إلى احتمال انتقال الصراع من الحرب النفسية إلى الميدان الفعلي.

فبراك، الذي يُعرف عنه أنه لا يتحدث خارج منسوب التوجيهات الإستراتيجية، أراد من خلال تغريداته أن يوجّه إنذاراً سياسياً مبطّناً إلى القوى اللبنانية مفاده أن “زمن المماطلة انتهى”، وأن المجتمع الدولي، وتحديداً واشنطن، بدأت تضع سيناريوهات ما بعد فشل الدولة في تطبيق القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701 الذي ينص على حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية.

من زاوية أعمق، يُقرأ كلام براك على أنه “تدشين لمرحلة جديدة من الضغط الأميركي المركّب” على بيروت، تمزج بين التحفيز السياسي والتهديد الأمني، في محاولة لإعادة توجيه أولويات الدولة اللبنانية من الداخل المأزوم إلى ملف المواجهة مع حزب الله. كما أنه يأتي في توقيت سياسي لافت، يتقاطع مع دعوات رئاسية داخل لبنان لفتح حوار وطني شامل حول مستقبل العلاقة مع إسرائيل، (يُرجّح أن يؤدي موقف براك إلى تضييق هامش الحركة أمام هذا الحوار)، ما يجعل تصريحه بمثابة رسالة مزدوجة:

– الأولى إلى الداخل اللبناني مفادها أن أي حوار يجب أن يبدأ من مسألة السلاح والسيادة.
– الثانية إلى إسرائيل بأن واشنطن لن تمانع تحركاً محدوداً إذا استمر الجمود اللبناني،(قد يُشجّع تل أبيب على تصعيد ضغوطها العسكرية أو السياسية في الشمال اللبناني، لتفرض واقعاً ميدانياً يعيد صياغة التوازنات قبل أي مفاوضات محتملة).

اللافت أن براك حاول أن يلبس موقفه ثوب الإصلاح. فهو لم يقدّم تحذيره بلهجة عقابية فحسب، بل حاول إقناع اللبنانيين بأن نزع السلاح فرصة لبناء دولة حديثة وقادرة على النهوض الاقتصادي، في مقاربة تجمع بين العصا والجزرة، تستهدف بشكل خاص الشارع الشيعي الذي يرى في سلاح حزب الله ضمانة أمنية، لكنها تفتح في الوقت نفسه باب التساؤل حول مدى استعداد واشنطن فعلاً لدعم لبنان اقتصادياً إذا دخل في مسار صدام داخلي، مع حكومة “معطلة غير قادرة على اتخاذ القرار ودولة يهيمن عليها حزب الله”.

في ضوء ذلك، تبدو الخيارات أمام بيروت ضيقة ومعقّدة:
– إما القبول بالدخول في مفاوضات داخلية وخارجية شاقة حول مستقبل سلاح حزب الله.
– اما المخاطرة بمواجهة عسكرية إسرائيلية قد تكون محدودة في بدايتها، لكنها قد تتدحرج إلى صدام أوسع يهدّد ما تبقى من البنية اللبنانية الهشّة، والاهم تصفية تسوية ٩ كانون الثاني بكل تجلياتها ونتائجها.

في الحالتين، يبقى الثمن باهظاً ما لم تُحسن القوى السياسية التقاط اللحظة وبلورة موقف وطني موحد يوازن بين مقتضيات السيادة ومتطلبات الأمن.

في المحصلة، يمكن القول إنّ تصريح توم براك لم يكن مجرد تعبير عن موقف أميركي آنٍ، بل مؤشر على تحوّل استراتيجي في مقاربة واشنطن للملف اللبناني، خصوصا بعد “امتحان نيويورك”، من مرحلة “إدارة الأزمة” إلى مرحلة “فرض المسار”. تحوّل، إذا ما تُرجم إلى خطوات عملية، قد يفتح الباب أمام واحدة من أكثر المراحل دقّة في تاريخ لبنان الحديث، حيث تتقاطع فيها حسابات الأمن والسيادة والشرعية الدولية في مزيج معقّد من الضغوط الداخلية والتهديدات الخارجية.

لكن السؤال الذي يبقى مطروحاً: هل يمتلك لبنان القدرة والإرادة لالتقاط هذه اللحظة وتحويلها إلى فرصة لبناء دولة قوية قادرة على الإمساك بقرارها السيادي؟
الجواب مرهون بما ستسفر عنه الأيام المقبلة: إما استجابة لبنانية مسؤولة تنقذ البلاد من حافة الانهيار، أو استمرار لعبة الوقت الضائع التي حذّر منها براك، حيث قد يتكفّل الميدان بكتابة الفصول المقبلة من الأزمة اللبنانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى