التنين يبحر نحو العظمة ….

خاص – بيروت بوست
في مشهدٍ بات يثير قلق واشنطن وحلفاءها في المحيطين الهندي والهادئ، أطلقت الصين إشارتها البحرية الأقوى حتى الآن: إدخال حاملة طائرات جديدة إلى الخدمة الفعلية، لتؤكد أن معركتها لم تعد تجارية فقط، بل استراتيجية بامتياز، عنوانها السيطرة على “المياه الزرقاء” وممرات التجارة العالمية.
منذ سنوات، تعمل بكين على ترجمة طموحاتها العسكرية إلى واقعٍ ملموس. لكن هذه الخطوة الأخيرة، تأتي في توقيت بالغ الحساسية، بين حربٍ باردة متجددة مع الولايات المتحدة، وسباقٍ محموم على النفوذ في بحر الصين الجنوبي وتايوان.
فالحاملة الجديدة ليست مجرد قطعة بحرية متطورة، بل رسالة سياسية عائمة تقول للعالم: “الصين لم تعد تكتفي بالدفاع، بل باتت قادرة على الإسقاط والتأثير أينما تشاء”.
ما وراء التوقيت
يقرأ الخبراء في إدخال الحاملة الصينية إلى الخدمة تزامناً مع تزايد الوجود الأميركي في بحر الصين الجنوبي، وكأنها خطوة لفرض “توازن رعب بحري” جديد، تحديدا بعد قمة الرئيسين ترامب وشي. فبينما تحاول واشنطن تثبيت حضورها من خلال تحالفات مثل “أوكوس” و”كواد”، تردّ بكين بتكريس نفسها كقوة بحرية مكتملة الأركان.
اذن الهدف واضح: حماية خطوط إمدادها التجارية الهائلة التي تمر عبر مضيق ملقا، وتأمين مجالها الحيوي البحري الذي تعتبره “الخاصرة الاقتصادية للإمبراطورية الجديدة”.
التحوّل في العقيدة
تاريخياً، كانت الصين تركز على قواتها البرية والصاروخية ضمن استراتيجية دفاعية صارمة. لكن دخولها نادي حاملات الطائرات يعكس تحولاً جذرياً في عقيدتها العسكرية نحو “القدرة على العمل خارج الحدود”. فبكين لم تعد تكتفي بردع الخصوم عند شواطئها، بل تريد أن تكون قادرة على حماية مصالحها من إفريقيا إلى المحيط الهادئ.
فالحاملة الجديدة، المزودة بأحدث أنظمة الإقلاع الكهرومغناطيسي والطائرات المقاتلة من الجيل الجديد، تمنح الصين أداة قوة ناعمة وخشنة في آنٍ واحد: رمز هيبةٍ قومية في الداخل، وذراع ضغطٍ سياسي واقتصادي في الخارج.
رسائل إلى تايوان وواشنطن
في خلفية المشهد، تتضح الرسائل الموجهة إلى تايبيه وواشنطن. بالنسبة إلى الصين، لا يمكن الحديث عن “وحدة الوطن الأم” دون امتلاك قدرة بحرية تضمن التفوق في أي سيناريو حول الجزيرة المتمردة، أما لواشنطن، فالإشارة صريحة: انتهى زمن التفوق البحري الأميركي المطلق في آسيا.
نحو بحر متعدد الأقطاب؟
إدخال الحاملة الجديدة إلى الخدمة ليس حدثاً معزولاً، بل حلقة في استراتيجية طويلة المدى تسعى إلى جعل المحيطين الهندي والهادئ مسرحاً لتوازن قوى جديد. فالتنين لا يريد الحرب، لكنه لن يقبل، على ما يبدو، بعد اليوم، أن تظل السفن الأميركية تجوب مياهه “لضمان حرية الملاحة” من دون إذنٍ ضمني منه.
في الخلاصة، ما تفعله الصين اليوم هو إعادة رسم خريطة القوة البحرية العالمية. فحاملة طائراتها الجديدة ليست مجرد سفينة عملاقة، بل “منصّة سيادة” عائمة تعبّر عن مرحلة جديدة من الصعود الصيني، لمرحلة عنوانها: “من سور الصين العظيم… إلى أسطول الصين العظيم”.
ظلال على الشرق الأوسط
في المدى القريب، سيعيد دخول الحاملة الصينية الجديدة إلى الخدمة خلط الأوراق في ميزان القوى الآسيوي. فاليابان والهند وكوريا الجنوبية، التي تراقب التمدد الصيني بقلقٍ متزايد، ستجد نفسها أمام سباق تسلّح بحري غير معلن، تُغذّيه واشنطن تحت شعار “احتواء بكين”. أما في بحر الصين الجنوبي، فستتراجع مساحة المناورة أمام الأسطول الأميركي، الذي اعتاد منذ عقود التحرك بحرية تامة.
لكن الأبعد من ذلك، أن الظل الصيني بدأ يمتد غرباً. فحيثما تمر خطوط الطاقة والنفط، من الخليج إلى قناة السويس، تبحث بكين عن موطئ قدمٍ عسكري واقتصادي يضمن تدفق مصالحها. قاعدة جيبوتي كانت البداية، وقد لا تكون الأخيرة.
بمعنى آخر، الصين لم تعد لاعباً آسيوياً فقط، بل قوة عالمية بحرية ناشئة، تدخل إلى مسرحٍ كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة وحدها. ومع كل حاملة جديدة، تتقلّص المسافة بين “الحلم الصيني” وواقعٍ يقول إن العالم يسير نحو نظامٍ بحري متعدد الأقطاب، قد تتغير معه قواعد اللعبة من مضيق تايوان …. إلى مضيق هرمز.
فالتنين الذي تعلّم التحليق في السماء، يبدو اليوم مستعداً للإبحار في كل الاتجاهات.





