خاصأمن وقضاءإقليميدوليسياسةنزاعات وصراعات

الامن بين الشرق والغرب: الرياض من منصة اقليمية الى لاعب دولي

يشكل انعقاد مؤتمر ميونخ للأمن، في المملكة العربية السعودية، محطة فارقة في مسار العلاقات الدولية والإقليمية، إذ لم يعد المؤتمر محصورا في قاعاته التقليدية في مدينة ميونخ الألمانية، بل انتقل إلى قلب الشرق الأوسط، المنطقة التي تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى وتتشابك ملفاتها الأكثر حساسية، من الطاقة وأمن الممرات البحرية، إلى النزاعات الإقليمية والتحديات العابرة للحدود.

من هنا تنبع أهمية هذا الحدث، من رمزيته ومضمونه معا. فهو يعكس إدراك المجتمع الدولي أنّ معادلات الأمن العالمي لا يمكن حسمها بعيداً عن الشرق الأوسط، من جهة، ويجسد صعود المملكة العربية السعودية كفاعل مركزي في القضايا الأمنية والدبلوماسية على المستويين الإقليمي والدولي، من جهة ثانية، مع ما يمثله الامران من مواكبة للتحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، سواء من خلال إعادة ترتيب أولويات القوى الكبرى، أو عبر بروز مبادرات إقليمية تسعى لتجاوز النزاعات التقليدية نحو شراكات اقتصادية وأمنية أوسع.

عليه، تعكس استضافة الرياض للمؤتمر، معادلة تتداخل اركانها الثلاثة: إعادة توزيع مراكز الثقل الدولي من الغرب إلى مناطق التوتر الحيوي، تأكيد المكانة الاستراتيجية للمملكة كجسر بين الشرق والغرب، وإعادة تعريف مفهوم الأمن الإقليمي بما يتجاوز البعد العسكري التقليدي ليشمل الطاقة، التكنولوجيا، الأمن الغذائي والاقتصادي، وهي كلها محاور تتقاطع مع رؤية المملكة لمستقبلها ودورها العالمي.

أمام هذه الوقائع يصبح الحديث عن دلالات عقد المؤتمر في المملكة العربية السعودية، اساسيا لفهم التحول في مراكز القوى الاقليمية، وفي خطوط التحالف الدولي – الاقليمي، على ما يؤكد دبلوماسي سعودي مخضرم، عمل في سفارة بلاده في بيروت، متوقفا عند نقاط ابع أساسية، تصب في مصلحة تعزيز “رؤية ٢٠٣٠” المتكاملة لولي العهد الامير محمد بن سلمان، هي:

١- تعزيز الدور المحوري للمملكة عالميا وإقليميا، من خلال جعلها، اولا، كمركز عالمي للحوار، ولتبادل وجهات النظر بين صناع القرار في السياسة الأمنية الدولية، ما يؤكد على دورها، كـمنصة محورية للحوار الدولي ومعالجة التحديات الأمنية، وثانيا، كشريك دولي – أمني أساسي لا يمكن تجاوزه في صياغة النقاشات المتعلقة بالأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، خاصة في ظل التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط، وثالثا، تعكس الاستضافة تقدير المجتمع الدولي لجهود المملكة المتزايدة في الوساطة الدبلوماسية والمبادرات الأمنية لحل النزاعات الإقليمية والدولية.

٢- تسليط الضوء على القضايا الأمنية الإقليمية، من أمن الطاقة، الملاحة البحرية، الصراعات الإقليمية، ومسار السلام بين فلسطين وإسرائيل، والتي شكلت صدارة أجندة، منح المملكة ومنطقة الخليج صوتاً مؤثرا ومباشرا في هذه النقاشات، هذا فضلا عن ربط الأمن الإقليمي بالعالمي، حيث أكد المؤتمر على العلاقة الوثيقة بين الأمن الشرق أوسطي والأمن الاقتصادي والسياسي العالمي، خصوصا فيما يتعلق بسلاسل الإمداد والتجارة العالمية وأسواق الطاقة.

٣- دعم التوجهات الاستراتيجية لرؤية 2030، من خلال نقطتان بارزتان:

أ- القوة الناعمة والثقافية، التي عبر عنها اختيار مدينة العلا تحديداً، ذات العمق التاريخي والثقافي، ما يربط الحوارات السياسية والأمنية العالمية بالمشروع الثقافي والسياحي للمملكة ضمن رؤية 2030، وهذا يهدف إلى إيصال رسالة للعالم بأن العلاقات السياسية والاقتصادية يجب أن تُبنى على أساس ثقافي وتاريخي.
ب- التحول والإصلاح، اذ تاح المؤتمر للرياض فرصة تُتيح عرض التحول الكبير الذي تشهده المملكة وفقاً لرؤية 2030، بما في ذلك تنويع الاقتصاد، وتمكين الشباب والمرأة، ما يعزز صورة الدولة الحديثة والمتطورة أمام صناع القرار العالمي.

٤- تعزيز التعاون المتعدد الأطراف: مع توفير انعقادها في السعودية، كمنصة للتشاور غير الرسمي، بيئة فريدة للحوار المفتوح وتعزيز الثقة بين صانعي القرار من مختلف الأطراف (الشرق الأوسط، أوروبا، الولايات المتحدة)، بهدف تطوير حلول مستدامة للتحديات الأمنية، من جهة، ودعم نظام عالمي متعدد الأقطاب، في سياق التركيز على خيارات تنشيط التعددية في ظل تزايد التشرذم والمنافسة الاستراتيجية الدولية، مما يدعم سعي المملكة نحو علاقات متوازنة مع القوى العالمية المتعددة، من جهة أخرى.

في الخلاصة، يحمل عقد المؤتمر في الرياض أكثر من مجرد دلالة رمزية، فهو يعكس تحول المملكة إلى لاعب أساسي في هندسة المشهد الأمني والدبلوماسي الإقليمي والدولي.

فالمؤتمر الذي اعتاد أن يكون ساحة أوروبية للنقاش حول مستقبل الأمن العالمي، يجد اليوم في الرياض، والعلا تحديدا، فضاء جديداً يعكس موازين القوى المتغيرة وأهمية الشرق الأوسط كحلقة وصل بين العالمين الغربي والشرقي.

عليه، فإن التحدي الأكبر أمام الرياض هو استثمار هذه اللحظة التاريخية لتعزيز صدقيتها كوسيط وفاعل مؤثر، وتوظيف المؤتمر كنقطة انطلاق نحو ترسيخ حضورها على طاولة القرارات الكبرى التي تعيد رسم خريطة الأمن والسياسة في القرن الحادي والعشرين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى