
خاص – بيروت بوست
في لحظة سياسية شديدة الحساسية، أعاد وزير العدل، عادل نصار، تحريك أحد أكثر الملفات تعقيداً في تاريخ لبنان الحديث، بإصداره قراراً بتعيين محققين عدليين في قضايا الاغتيالات السياسية التي طالت شخصيات بارزة خلال العقدين الماضيين.
خطوة، تأتي في وقت يشهد فيه لبنان حالة من التجاذب السياسي الحاد، لا يمكن قراءتها كإجراء إداري فحسب، بل كتحرك، يحمل أبعاداً سياسية وأمنية وقضائية، ويتقاطع مع السياق الإقليمي والدولي الراهن.
فمنذ 2005، شكلت الاغتيالات السياسية في لبنان أحد أبرز رموز هشاشة، حيث تراكمت الملفات في أدراج القضاء دون محاسبة حقيقية. ومع مرور الوقت، تآكلت ثقة اللبنانيين بقدرة “العدالة اللبنانية” على إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة.
من هنا، تأتي خطوة الوزير نصار كمحاولة لإعادة فتح تلك الملفات، في لحظة تبدو فيها الدولة اللبنانية بحاجة ماسة إلى إثبات أنها لا تزال تملك أدوات العدالة، ولو في الحد الأدنى.
إلا أنّ ما يميز هذا ليس فقط مضمونه القضائي، بل توقيته السياسي. فلبنان يقف اليوم على أعتاب مرحلة دقيقة عنوانها التبدلات الإقليمية، والتسويات المحتملة في ملفات المنطقة، من غزة إلى مفاوضات شرم الشيخ، مروراً بالاستحقاقات الداخلية المعلقة من الاصلاح السياسي- الاقتصادي، الى الامني – القضائي.
في هذا الإطار، يقرأ المراقبون تحرك نصار كجزء من محاولة لإعادة ترميم صورة الدولة أمام الخارج، ولا سيما العواصم الغربية والعربية، التي تشترط لدعمها المالي والسياسي للبنان، اتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة في مجالات العدالة والشفافية ومكافحة الإفلات من العقاب.
في المقابل، ثمة من يرى في قرار وزير العدل رسالة داخلية موجّهة إلى الطبقة السياسية نفسها، مفادها أنّ مرحلة تجميد الملفات الحساسة قد انتهت. ففتح قضايا الاغتيال، ولو رمزياً، يعني الاقتراب من خطوط تماس سياسية وأمنية اعتاد الجميع تفاديها.
عليه، فإن التعيينات الجديدة قد تثير موجة من الاعتراضات أو محاولات الالتفاف، خصوصاً من القوى التي تخشى أن يطال التحقيق مناطق نفوذها أو يحرّك ملفات طُويت بقرار غير معلن.
الى ذلك، تضع هذه الخطوة القضاء اللبناني أمام اختبار صعب: هل سيتمكن المحققون العدليون من العمل بحرية بعيداً عن التدخلات؟ وهل ستؤمَّن لهم الحماية السياسية والأمنية التي تضمن سير التحقيقات حتى النهاية؟
تجارب الماضي القريب لا تبعث على الاطمئنان، إذ غالباً ما كانت الملفات الكبرى تصطدم بجدار المصالح السياسية والطائفية، فتُطوى قبل أن تُقرأ نتائجها.
أما أمنياً، فلا يُستبعد أن تؤدي هذه الخطوة إلى حركة موازية في الأجهزة الأمنية، خصوصاً إذا ما طُلب التعاون في جمع الأدلة أو إعادة تحليل معطيات قديمة. لكنّ المخاطر تبقى قائمة، إذ إن أي تسريب أو استهداف لمحققين قد يعرقل المسار برمّته، ما لم تُعتمد آليات حماية صارمة ومدروسة.
أما على المستوى السياسي الأوسع، فإن الخطوة تُعَدّ جزءاً من محاولة استباقية قبل الدخول في مرحلة التسويات الكبرى التي يُتوقع أن تشمل لبنان ضمن سلّة تفاهمات إقليمية ودولية. بمعنى آخر، يسعى الوزير نصار ربما إلى تحصين المرجعية القضائية اللبنانية قبل أن تُفرَض عليها تسويات تطيح بما تبقّى من استقلالها.
في المحصلة، يمكن القول إنّ خطوة تعيين محققين عدليين في قضايا الاغتيالات السياسية هي مؤشر إلى مرحلة انتقالية جديدة في العلاقة بين السلطة السياسية والقضاء. هي محاولة لإعادة الاعتبار إلى مفهوم العدالة في بلدٍ تُدار فيه الملفات الكبرى غالباً بمنطق الصفقات لا بالقوانين.
في الخلاصة يتوقف نجاح أو فشل “خطة” وزير العدل، على مدى استعداد الطبقة السياسية لحماية القضاء بدل توظيفه، وعلى قدرة الدولة على توفير مظلة حماية فعلية للمحققين كي لا يُضاف قرار نصار إلى سلسلة المبادرات الإصلاحية التي دفنت قبل أن تولد.
فلبنان يقف اليوم أمام اختبار العدالة من جديد. فإما أن تكون خطوة “الكتائب”، بداية طريق نحو استعادة هيبة الدولة والقضاء، وإما أن تبقى خطوة يتيمة في سجل طويل من المحاولات الضائعة بين حسابات السلطة وضغوط الواقع.




